عمرو منير دهب يكتب: شوقي والعالمية

ليس شوقي فحسب، بل كل الشعراء العرب الغنائيين لم يبلغوا العالمية؛ وقبل الاعتراض على هذا التعميم من قِبل أيٍّ من معجبي شوقي أو الشعر العربي الغنائي مجملاً، والردّ على الاعتراض المفترض من قِبلي، لنحاول الإجابة على السؤال: ما المقصود بالعالمية؟

عل غير ما يتبادر إلى الأذهان والوجدان في محيطنا، العالمية لا تعني أن يحوز الشاعر جائزة عالمية مرموقة أو يُعرف في أوساط خارج محيطه الإقليمي، بل تعني تحديداً أن يصبح مؤثّراً على النطاق العالمي قاطبة بأدبه أو حتى شخصيته الملهمة؛ وذلك على نحو ما حازه مثلاً غابرييل ماركيز الذي تجاوز تأثيره – لا صيته فحسب – موطنه وقارّته، أو على نحو تأثير أدب أمريكا الجنوبية عموماً المكتوب بالإسبانية والمعبِّر عن خصوصية محلّية – سواء باختصار تلك الخصوصية في الواقعية السحرية أو عدا ذلك من الأفكار غير المقيّدة بمصطلح بعينه – من خلال أدوات فنّية رفيعة؛ وقد أوردنا هذا المثال تحديداً للتعبير عن حال يُفترض أن تكون ذات صلة بواقعنا على الأقل من حيث التواضع النسبي في التأثير العالمي اقتصادياً وحضارياً، وإن يكن المثال ليس مطابقاً تماماً بطبيعة الحال.

يجب الانتباه إلى أن مشكلة العالمية مع الشعر العربي ليست مقتصرة على الشعر الغنائي الكلاسيكي، بل تشمل الشعر الحديث بكل أشكاله. أدونيس مثلاً، وبحسب ناقد صيني في لقاء تلفزيوني قريب على قناة عربية، تُباع من كتبه في الصين أعداد مرتفعة حتى قياساً إلى بعض الكتّاب الصينيين الرائجين بدرجة أو أخرى؛ ولكن الناقد الصيني لم يُغفل الإشارة إلى أن رواج مؤلفات الشاعر والناقد العربي المرموق يعود في المقام الأول إلى دواعٍ تتعلق بهموم أيديولوجية وسياسية مشتركة (وليس إلى قيمتها الفنية الصرفة، كما يمكن الاستنتاج من سياق الكلام)، وذلك دون أن يقلّل الناقد الصيني من قيمة مؤلفات الأديب العربي المرموق على كل حال.

لا أذكر إذا كان الحديث حينها يتعلّق بإنتاج أدونيس الشعري أم بمؤلّفاته النقدية تحديداً؛ في كل الأحوال يُعتبر الإنجاز داعياً إلى التقدير، لكنه لا يزال بعيداً عن اعتباره إشارة عميقة الدلالة على العالمية التي لا تعني مجرد الانتشار خارج الحدود الإقليمية للشاعر في بلد بعينه أو حتى قارّة بأسرها بقدر ما تعني أن يشمل الانتشار العالمَ أجمع بقدر عميق من خصوصية التأثير ووضوح معالمه؛ وذلك دون التقليل من قيمة أي إنجاز يتحقق عبر القفز بالإبداع الأدبي خارج أسوار الوطن وحدود الإقليم وإحراز أي تقدّم في إيصال صوتنا الأدبي إلى الآخر.

الترجمات والدراسات التي أنجِزت من قِبل الأكاديميين من المستشرقين وغيرهم – في ما يتعلّق بأعمال الشعراء العرب الغنائيين منذ الجاهلية حتى العصر الحديث - دلالة على أن الشعر الغنائي العربي تجاوز محيطه الإقليمي، ولكن ليس إلى حيث ألهم العالم عميقاً بحال على نحو ما فعل مثلاً كتاب "ألف ليلة وليلة" ذو الأصول الآسيوية المتشابكة الذي انطبع في الوجدان الغربي بإيحاءات عربية شبه خالصة إلى درجة أنّ ترجمته الإنجليزية صدرت بعنوان "الليالي العربية".

امرؤ القيس والمتنبي وأبو العلاء وغيرهم حاضرون إذن في الترجمات والدراسات النقدية بلغات الغرب ومختلف دول العالم، ولكن غالباً – إن لم يكن دائماً تقريباً – داخل أسوار الجامعات والمعاهد الأكاديمية الرفيعة، أو لدى بعض صفوة المهتمين بثقافات الشعوب الأخرى على أبعد تقدير؛ ما يعني أن تأثير أيٍّ من شعرائنا العرب الغنائيين على الثقافات الأدبية الأخرى إمّا ضعيف جداً أو منعدم تماماً، والاحتمال الأخير هو الأقرب، فأنا أقول "ضعيف جداً" تحوّطاً فحسب.

ولكي لا نظلم شعرنا العربي، الغنائي وغير الغنائي، فإن من المهم الإشارة إلى أن أدبنا العربي إجمالاً – وباستثناء خصوصية "ألف ليلة وليلة" التي أشرنا إليها – يعاني المشكلة ذاتها مع العالمية؛ فإنجاز نجيب محفوظ بنوبل الأدب سنة 1988 فريد ومقدّر أبعد تقدير، لكن ذلك الإنجاز لم يخلع أثره على الأدب العالمي بحيث يستلهم العالمُ تقاليدَ الرواية العربية فنّياً، فالرواية العربية هي التي تأثرت بالأدب الغربي واستلهمته. حتى رائعة الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" – والتي ظلت تحتل مراكز مرموقة في قوائم الأعمال الروائية المؤثرة عالمياً على أكثر من نطاق إحصائي – لم تُفلح في إرساء ملامح مدرسة مستقلة باعثة على الاستلهام ومؤثرة عالمياً بقدر ما كانت بالغة التميّز من الناحية الفنية الصرفة والناحية الفكرية المرتبطة بجدلية العلاقة بين الشرق والغرب. محفوظ والطيب مثالان بديعان، وغيرهما كثير على الصعيد الروائي من حيث تجاوز الصوت العربي إلى الآخر في الغرب وغيره من بقاع العالم؛ ولكن دون تحقيق العالمية المنشودة من حيث الشمول وعمق التأثير الملهم، وذلك مجدداً دون التقليل من قيمة كل صوت يتجاوز الحدود بأي شكل وقدر.

بالعودة إلى أمير شعرائنا تحديداً، يقول حسين شوقي في كتابه عن أبيه: "وقد حظيتْ الكرمة الجديدة في نفس هذا العام (1926) بزيارة شاعر الهند الكبير طاغور. أقام أبي حفلة تكريم كبيرة دعا إليها كثيرين من الأدباء والكبراء، وقد حضرها الزعماء إذ كان الائتلاف السعيد قائماً بين الأحزاب إذ ذاك، وقد تفضل سعد باشا وكان رئيساً لمجلس النواب فأخّر انعقاد المجلس ساعة كي يتسنى لحضرات الأعضاء المدعوين عندنا تلبية الدعوة، وهو تصرف كريم من سعد باشا أثّر في أبي أشد التأثير. وقد كلّفني أبي بالتوجه إلى فندق شبرد حيث نزل طاغور لأصحبه إلى المنزل، وقد حضر ومعه سيدتان هنديتان أيضاً، وكان الثلاثة يلبسون اللباس الوطني الهندي، وكان طاغور في هذه الملابس، وبقامته الطويلة وشعره ذي الحلقات الكثيفة، كأنه أحد الأنبياء الذين ذكروا في التوراة".

نواصل مع حسين شوقي ونحن نقترب من بيت القصيد في المقتطَف: "سألني طاغور ونحن في السيارة، في الطريق إلى المنزل، عن مؤلفات أبي هل ترجمت إلى الإنجليزية فأجبته بالنفي، لأنه لم يكن تُرجم شيء منها إذ ذاك؛ فمجنون ليلى ترجمها فيما بعد الأستاذ أربري عام 1933".

أمّا بيت قصيدنا من الاقتطاف فهو ذا: "قال أبي لطاغور في أثناء حديثه معه إنه يغبطه إذ أن عدد قرائه عظيم، فالهند (شملت حينها باكستان وبنغلاديش التي ينحدر منها طاغور) بلاد واسعة تضم أكثر من 300 مليون من السكان، فأجاب طاغور: حقاً إن الهند واسعة، ولكن مع الأسف كل ولاية فيها تتكلم لغة تختلف عن لغة الأخرى، لذلك أصبح من يفهمون كلامي لا يتجاوز عددهم عشرة الملايين؛ ثم أضاف مبتسماً: بل أنت أحق مني بالاغتباط، فإن قرّاءك هم العالم العربي كلّه".

لست متأكداً إلى أي مدى يمكن أن يكون طاغور قد أثّر بأعماله على الأدب العالمي من وجهة نظر فنّية خالصة، وجدير بالذكر أن من بين أهم ما خوّل الشاعر الآسيوي الكبير ليصبح أول من ينال جائزة نوبل من خارج أوروبا (ليس في الأدب فحسب بل في كل المجالات) أعمالَه الشعرية الغنائية؛ وطاغور أديب وفنان متعدد المواهب والإنجازات. لكن، وعلى كل حال، يبدو أثر طاغور في المقام الأول بوصفه شخصية ملهمة بأبعادها الفكرية والروحية أكثر من كونه أثراً عميقاً وواضح الملامح على الأدب العالمي من الناحية الفنية الخالصة.

في المقابل، ينحسر تأثير أمير شعرائنا بصورة ملحوظة إلى حدود عالمنا العربي أو بما يجاوزه بقليل بتأثير دواعٍ دينية أو سياسية مقيدة بشروط زمانية ومناسبات بعينها.

لكن مهلاً، هل العالمية هي كل شيء؟ أجيب دون تردّد: لا، بل إنها ليست أهم ما يجب أن يطمح إليه المبدع؛ ذلك أن الأهم ابتداءً هو تعبير الشاعر عن ذاته ومحيطه أصدق وأبرع تعبير من الوجهة الفنية الخالصة، وقد فعل شوقي ذلك أفضل مما فعله أي شاعر عربي آخر، لكنه لم يدرك العالمية لأنها لم تتيسر له بالنظر إلى شروط عديدة ومتداخلة، بعضها فنّي يتّصل بطريقة التناول الأدبي شكلاً ومضموناً، وبعضها يتعلق بظروف تاريخية وجغرافية وسياسية واجتماعية متداخلة بدورها.

ومثلما أن الشهرة حظوظ، فإن العالمية – باعتبارها جزءاً من الشهرة أو ربما منتهى الشهرة – حظوظ كذلك؛ وقد تاق شوقي إلى العالمية على الأرجح كما تبدّى في العديد من ملامح سيرته، وحديثه مع طاغور يشير إلى ذلك بوضوح. وإذا كان الأمير قد أرسى أسباب خلوده كما تمنّاها في الوجدان العربي، فإنه رحل دون أن يدرك صيتاً عالمياً ذا بال، على الأقل إلى الآن؛ وهي مسألة – كما رأينا – لا يزال يعاني منها أدباؤنا كافة وأجناس أدبنا العربي قاطبة.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])