مهند خيري يكتب: "بنات الباشا".. عن "الجثة" التي منحت الحياة للآخرين

مهند خيري يكتب: فيلم بنات الباشا


عن "الجثة" التي منحت الحياة للآخرين

يعد هذا العمل السينمائي، الذي أبدع في كتابته محمد هشام عبيه، وفي إخراجه محمد العدل، تجربة فريدة وغير تقليدية في بيئة المشهد السينمائي المعاصر، تشعر أن هناك شيئا مختلفا، فهو ليس مجرد فيلم تشويق حول حادثة موت، بل هو غوص عميق في دواخل مجموعة من النساء اللاتي يمثلن شرائح مختلفة من المجتمع. ينطلق الفيلم بصدمة قاسية: انتحار داخل صالون التجميل المملوك لعائلة الباشا في طنطا. هذه اللحظة الافتتاحية هي شرارة التوتر التي لا تخبو، والمحور الذي تدور حوله كل الخيوط السردية والنفسية.

صالون "الباشا" والستار الحديدي

المكان، "البيوتي سنتر"، يتحول من مجرد فضاء للزينة إلى رمز لحياة مؤقتة وهشة، تعتمد على السمعة والستر. اكتشاف جثة نادية على يد منى، يدفع بالشخصيات إلى قرار مصيري: التكتم على الجريمة لحماية مصدر رزقهم واستقرار حياتهم المهدد أصلا. هذا التكتم ليس خوفا من القانون بقدر ما هو خوف من انهيار آخر حصن يمتلكونه، خاصة بالنسبة لـ نور الباشا، المالك الذي يرى في هذا الصالون كل ما تبقى له.

سياق الزمن: 2017 وعمق المأساة

إن اختيار عام 2017 كسياق زمني لم يأتِ عبثا، فقد كانت فترة تتسم بالتوتر الاجتماعي والأمني. الإشارة إلى أن حادثة الانتحار تسبق خبر تفجير الكنيسة بفاصل زمني وجيز، تضفي على الأحداث طبقة إضافية من القلق العام والهشاشة المجتمعية، مما يبرر أكثر حالة الذعر والتكتم التي تسيطر على الشخصيات.

صراع الهوس: جيجي ونهال في فلك نور الباشا

رغم زواج نور الباشا، يكشف الفيلم عن صراع خفي ومحموم بين امرأتين على امتلاكه: جيجي، التي تزوجت لتتخفى في قربه، و نهال (فتاة الليل)، التي انتقلت إلى طنطا واشترت شقة جواره أملا في التفاتة. هذا الهوس يكشف عن فراغ عاطفي عميق لدى كلتا الشخصيتين، وعن نور الباشا كمحور جاذبية أعمى، يمثل بالنسبة لهما وهم الاستقرار أو التحرر.

براعة السرد والسيناريو: محمد هشام عبيه والرواية الأم

يحسب للسيناريست محمد هشام عبيه ابتكاره لأسلوب سردي مشوق وغير مألوف، استنادا إلى الرواية الأصلية للكاتبة نورا ناجي التي قدمت نسيجا روائيا ممتازا. السرد يتنقل ببراعة ليكشف عن خمس قصص متقاطعة تربط الجثة الهامدة، بكل من الشخصيات الحية: منى، نهال، جيجي، ياسمين السورية الخائفة من العودة،هذا التوزيع السردي المتقن يعكس رؤية سينمائية ناضجة وقدرة على التعامل مع تعقيدات النص الروائي.

نادية: الملاك المنقذ الساقط

يكمن القلب المأساوي للفيلم في شخصية نادية. الجثة التي يسعون للتخلص منها كانت في الواقع شريان الحياة لكل منهم. يكشف السرد الفلاشباكي عن تضحيات نادية المتكررة: سافرت مع منى لمواساتها في وفاة صديقتها، أنقذت نهال من محاولة انتحارها في البانيو، منعت ياسمين من رمي نفسها تحت عجلات السيارات، أنقذت جيجي من جرعة انتحارية زائدة، وكانت الوحيدة التي ساندت ميس فلك بعد حبسها.

إن سبب انتحارها يتحول إلى مفارقة تراجيدية عميقة: إحساسها بالخيبة والفشل والتقصير لأنها لم تستطع إنقاذ إحداهن، نادية، التي كانت بمثابة ملاك منقذ للجميع، لم تجد من ينقذها من إحساسها بالتقصير.

الإنتاج والرؤية الفنية: باهو بخش وصفي الدين محمود

يعكس هذا الفيلم ذائقة إنتاجية رفيعة للمنتجة باهو بخش والمنتج صفي الدين محمود، اللذين اختارا قصة إنسانية معقدة بعمق نفسي ودراماتيكي. شركة ريد ستار هذا ليس جديدا عليها، فقد اشتهرت بانحيازها للأفلام الإنسانية التي تعكس تجارب حقيقية ومتنوعة من المجتمع العربي. اختيارهما للمخرج محمد العدل يدل على فهم عميق لما يمكن أن يقدمه في معالجة هذه المادة الدرامية الحساسة في لوكيشن محكوم وخانق.

الإخراج والمعالجة البصرية: محمد العدل

برع محمد العدل في تحويل القصة إلى تجربة بصرية مشحونة بالتوتر والعمق النفسي. اختياره للموسيقى، الإضاءة، والحركة داخل الصالون يخلق إحساسا بالاختناق التدريجي. المشاهد الفلاشباكية تتكامل بسلاسة مع الخط الزمني الحاضر، مما يعمق فهمنا لكل شخصية. الكاميرا ترقب النساء بعطف لكن بحزم، لا تدينهن بل تحاول فهم ظروفهن.

تحليل الأداء التمثيلي: خلق الحقيقة على الشاشة

صابرين تقدم أداء محوريا مميزا، تجسد شخصية معقدة بثقل درامي حقيقي. هناك مشهد حساس تشغل فيه عنصرا دينيا رغم خلفيتها المختلفة، وهي تفصيلة دقيقة تبرز التعايش والارتباك النفسي والتمسك بالستر في وجه الخطر. أداؤها يحمل ثقلا حقيقيا. صابرين أضفت على شصية منى أصالة إنسانية وجعلت منها أحد أعمدة الدراما في الفيلم، بحضور فني واضح ونبرة أداء تستحق الإعجاب

تقدم زينة أداء منضبط وحساس في دورها جيجي مديرة صالون التجميل، شخصية معقدة تجسد صراع المرأة بين غريزة القلب وضغوط المجتمع الخانقة. تعيش شخصيتها صراعا نفسيا عميقا بين مشاعر حقيقية وواقع قاس يفرض عليها خيارات لا تريدها. في هذا الصراع الصامت، تجسد زينة درجات عميقة من المعاناة والاختناق، بين التظاهر بالقبول وحقيقة الألم الدفين. ما يميز أداؤها هو قدرتها على نقل هذه الصراعات بدون حاجة إلى كلمات كثيرة، حيث تعتمد على التعبير الدقيق والحركات الجسدية المعبرة. الملامح الطبيعية والعيون الحزينة تروي قصة شخصيتها أكثر من أي حوار.

ناهد السباعي تقدم نكهة مختلفة للفيلم، شخصية تتطلب من الممثلة التحول من الفكاهة إلى العمق الإنساني. المشهد التراجيدي يظهر براعة ناهد السباعي بعمق حقيقي، خاصة بملامحها الطبيعية الخالية من الماكياج، مما يعمق من صدق اللحظات العاطفية ويحول دورها من بسيط الى معقد.

احمد مجدي يجسد الشخصية الذكورية المركزية التي تمثل نموذجا معينا من السلطة والمسؤولية. أداؤه يكشف عن طبقات الشخصية المختلفة والصراعات الداخلية التي تحتويها. المشهد الأخير الذي يتعلق بمصيره يعكس أداء متقنا.

باقي الممثلات، من مريم الخشت الى تارا عبود الى القديرة سوسن بدر في دور ضيفة الشرف، كل واحدة تعكس اختيارا دقيقا لوجوه تمتلك ثقلا دراميا وقدرة على التعبير عن الألم والتعقيد.

لمسات الإبداع خلف الكاميرا

تكتمل صورة فيلم بنات الباشا بلمسات فنية متقنة من طاقم العمل التقني والفني الذي أضفى على المشاهد طابعا واقعيا يناسب بيئة الأحداث في طنطا، حيث تولت نانسي عبد الفتاح إدارة التصوير فجاءت الكادرات محملة بظلال التوتر والحميمية، ونجحت في إبراز التفاصيل المكانية والنفسية للشخصيات بتميز بصري لافت. أما المونتاج فكان على يد داليا الناصر، التي أبدعت في ربط الخطوط الزمنية والسردية بسلاسة وأعطت لكل لحظة إيقاعها الداخلي المؤثر. اهتم أحمد شاكر خضير بالديكور مجسدا واقعية الصالون وتنوع عالم النساء داخله، بينما حملت موسيقى خالد الكمار روح الفيلم بمداخلها الوجدانية وبنائها الدرامي العميق. وجاءت ملابس مونيا فتح الباب لتعبر عن طبقات الشخصيات وأزمتهن، مانحة لكل واحدة خصوصيتها الجمالية والنفسية. كل عنصر من هذه العناصر ساهم في رسم عالم الفيلم وتكثيف أبعاد قصته الإنسانية.

الاختيار الذي يُحيي

في النهاية، تصل الأحداث الى ذروة درامية تتطلب من الشخصيات اتخاذ قرار حاسم. هذا القرار يكشف عن القيم الحقيقية لكل منهن، ويشير إلى أن الحياة مليئة بالخيارات الصعبة. النهاية تحمل رسالة عميقة عن التضحية والصداقة والخلاص.

فيلم بنات الباشا يستحق الإشادة على تميزه في اختيار الممثلين، وعمق مونتاجه، وهو دليل على ذائقة إنتاجية رفيعة لباهو بخش وصفي الدين محمود. رؤية محمد العدل الإخراجية وتعامله مع السيناريو الممتاز من محمد هشام عبيه، المستوحى من رواية نورا ناجي الجميلة، يخلق عملا متكاملا يلامس الوجدان ويدعو للتفكير في معنى التضحية الحقيقية، والصداقة النسائية التي تتجاوز المصالح، والخلاص من خلال الاختيار الأخلاقي. إنه فيلم يترك أثرا في الروح.