مهند خيري يكتب: الفيلم الأسباني الابن: جيل وماري بوبينز.. حينما ينتصر الخيال على صمت الآباء

رؤية أولى: البراءة على عتبة الألم

يتسلل الفيلم بنعومة إلى قلب المتفرج بمشهد يجمع الطفل جيل مع شخصيته الكرتونية المفضلة ماري بوبينز في لحظة دافئة مع والديه. سرعان ما يتحول هذا الدفء إلى وداع الأم في المطار، حيث تلاحقها طبيعة عملها كمضيفة طيران، لتبدأ رحلة الطفل في مواجهة العالم وحيدا. هنا تنكشف أمامنا أولى ملامح الإهمال، إذ نجد جيل يُترك في عهدة صديق والده الطاهي، بينما يزداد الأب انغماسا في انشغالاته. من اللحظات الأولى يرسم الفيلم صورة طفل يتحمل مسؤولية نفسه، يعد فطوره ويعتني بسريره بعد أن بلله في غفوة، لتتضح بثقل الموقف مدى افتقاد الرعاية والاحتضان.

ظلال الصراع النفسي بين الأب والابن

يفتتح الفيلم العلاقة بين الأب وابنه بصدام وتوتر، وكأننا أمام صورة جامدة من القسوة والجفاء. لكن الحقيقة تظهر رويدا رويدا؛ مانويل ليس قاسيا بل يحمل في أعماقه هشاشة وضعفا كبيرين. يخفي الأب خلف جدران نفسية خوفه من أن يرى ابنه كسره الداخلي، ويتجنب التواصل مع ماري، الأخصائية النفسية في المدرسة، كما يتفادى التعامل مع روبرتو المعلم ومع محيطه في العموم، كأنما يحاول بكل السبل ألا ينكشف ضعفه أمام من يحبهم. هذا الصراع تتفاقم حدته لكونه يتيما لم يعرف معنى الأبوة، فتحولت محاولاته للإصلاح إلى تعميق لجراح العلاقة بينه وبين جيل.

ماستر سين: الحقيقة تخرج من قلب الخشبة

في ذروة الأحداث يضع الفيلم أمامنا مشهدا فاصلا ومؤثرا: جيل يستعد بقلق لتقديم دور في مسرحية المدرسة والأب يجلس في الصفوف الأولى يخفي توتره. وبين كواليس العرض ولحظات الترقب، تتداخل نظرات الأب والابن وتتكشف المشاعر التي أخفاها مانويل طويلا. وخلال الحوار المسرحي وانفعالات الابن على الخشبة يحتدم الصراع ويعجز الأب عن مواصلة الكتمان، يسقط جدار الصمت ويبدأ كلاهما ولأول مرة حوارا حقيقيا تبكي فيه القلوب قبل العيون. هذا المشهد المكثف ليس مجرد لحظة اعتراف بل لحظة ولادة جديدة لعلاقة الأب بابنه، ودليل على أن المواجهة مهما تأخرت أجمل ألف مرة من حياة مرتعشة خلف الأقنعة.

ثنائية المشاعر في قلب شخصية مانويل

يبرع الفيلم في تصوير شخصية مانويل بكل تعقيداتها وانكساراتها. يعيش الأب بين ألم فقد زوجته وعجزه عن اختراق حواجز العلاقة مع ابنه، يلاحقه الندم على الوداع الأخير لزوجته الذي شابه شجار مرير، ويخشى مواجهة الحقيقة والانكشاف أمام جيل. هذا النزاع الداخلي يجعله يبكي منفرداً كل ليلة، ويضع قناع القوة المكذوبة كل صباح، في تجسيد مهيب لمعنى المأساة الإنسانية.

لهيب التفاصيل: سرد يتجاوز المركز

يغني الفيلم سرده بخطوط جانبية تمنح العمل واقعية ودفئا خاصا، مثل علاقة ماريا وروبرتو التي توازن ثقل القصة الأصلية، وعلاقة جيل مع الطاهي والسيدة التي التقاها في القطار، ليظهر كيف يحتضن الغرباء الطفل الذي أرهقه الانكسار. علاقة جيل بالطفلة نازيه تضيف بعدا جديدا يعكس تعقيدات العلاقات الإنسانية حتى في سن الطفولة، ويؤكد أن صعوبتها ليست حكرا على الكبار.

سيناريو موغل في العمق وأبطال ثلاثيو الأبعاد

يحمل السيناريو توقيع خوان أبولو وناتشو لا كاسا، مخرج الفيلم، وأليخاندرو بالوماس كاتب الرواية، ليقدم تجربة كتابة بالغة الحرفية والعمق. نجح السيناريو في تجاوز الأحداث الواضحة إلى الغوص في طبقات الشخصيات الرئيسية الثلاث: الأبعاد المادية والاجتماعية والنفسية. ماريا تظهر هنا في تعددية الأزمات: سعي مهني لإثبات الذات، رغبة صافية في مساعدة الطفل، وقرار حاسم بعدم الانجرار لقصة حب تقليدية مع روبرتو، مما أضفى واقعية ودقة على الشخصية وعلى قرارها. بالمقابل، جاء بناء شخصية مانويل مدهشا، إذ يخدع الجمهور بانطباع أولي عن صلابة زائدة ليكتشفوا عمق جراحه وألمه الحقيقي.

يتفوق الفيلم في تقديم جوهره الإنساني على التقنية أو الإبهار البصري، حيث يضع المضمون في أولويته، ويمنح السيناريو المساحة الأكبر ليكون حجر الأساس للعمل، مؤكدا أن النص الجيد كفيل بأن يحمل الفيلم بقوة على أكتافه مهما اختلفت أدواته. الجدير بالذكر أن الرواية الأصلية التي يستند إليها هذا العمل تركت بصمة عميقة في الأدب العالمي وترجمت إلى ثمانية عشر لغة.

ماري بوبينز: ذاكرتنا حين تشتد الريح

تلعب ماري بوبينز في الفيلم دور المرساة الأخيرة لذاكرة الطفل جيل، الرابط الآمن الذي يصله بأمه أماندا. تتجلى أهمية هذا الرمز في جلسات العلاج النفسي الأخيرة، حيث تصبح ماري بوبينز ملاذ الأمان الذي يحتمي به الطفل وسط أعاصير الفقد والإهمال، وتبقى شاهدا على أمله في استعادة الرابط المفقود مع الأم.

الابن ليس مجرد فيلم، إنه تجربة فنية معمة بالصدق والشفافية، تنجح في مخاطبة وجدان المشاهد الفني العميق والمتفرج الباحث عن مشاعر أصيلة وقصة مؤثرة. توازن الفيلم وحسه الإنساني العابر للزمن تجاوز التقنية ليترك في الروح أثرا دائما. هذا وقد شاهدت العمل هذا العام في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في دورة تحتفي وتنتقي العديد من الأفلام المميزة، فكل التحية لمبرمجي المهرجان على اختياراتهم التي صنعت عرسا سينمائيا رفيعا.