قال شوقي مخاطباً سكرتيره أحمد عبد الوهاب أبو العز، كما يذكر الأخير في كتابه عن الأمير وهو يسرد تفاصيل رحلة صيفية إلى سوريا ولبنان: "أحن إلى سوريا ولبنان حنيني إلى وطني وأحن إلى أهل هذه البلاد كما أحن لأهلي... سترى هنا منتهى حسن الخلق، وستراه عاماً ولا فرق في ذلك بين سوريا ولبنان... والكرم هنا ليس مختصراً على أهل هذه البلاد، بل تجده في أرضها وسمائها، وستعرف أنك كما رضيت مصاحبتي ضاحكاً سترى السماء والأرض والناس كلٌّ هنا باسمون، فترى التحية رُدّت إليك بأحسن منها أضعافاً مضاعفة".
يواصل أبو العز السرد: "قلت: وكيف تبتسم السماء والأرض؟ قال ولا زال يبتسم: السماء ترسل نسيماً عليلاً يقوي شهوة الطعام، وأنت مّمن يحب ياقل ياقل". في تفسير الكلمة الأخيرة المكرّرة، يجيء في الحاشية السفلية للصفحة المقتطَف عنها ما يلي: "كانت في دار الفقيد دادة تركية بلغت الثمانين من عمرها، وكانت كلّما مرضت قال طبيبها: من زيادة الأكل؛ وحقيقة كانت مسرفة في أكلها، فكانت تقول لطبيبها: ألم يكن عندك غير ياقل ياقل؟".
هذه لمحة جدّ عابرة من سخرية شوقي إنساناً على وجه العموم لا شاعراً بصفة خاصة؛ وسخريّته في شعره سنعرض لها بعد قليل، وهي ليست خافية على قرّاء الشوقيات عموماً، وإن تكن اللمحات في حياة الأمير من القبيل أعلاه ممّا لم يظهر جليّاً للجماهير التي رأينا في مقام سابق كيف أنه لم يتسنّ لها الاطّلاع إلّا على جانب العبقرية الأدبية من حياة شوقي، وذلك في إطار ما يروق السلطةَ الثقافية/الإعلامية/الرسمية أن تروّجه عن النجوم من الأعلام وبما تحبّه الجماهير من الصور على حدّ سواء، فالأخيرة – كما نشير مراراً - تتواطأ على رفض مبطّن/ضمني لما عدا الصورة المثالية للنجوم حتى في حياتهم الشخصية؛ ذلك في كل زمان ومكان مع تفاوتات بحسب طبيعة كل ثقافة.
وكما رأينا ونحن نختلس النظر من ثقب الباب المفضي إلى يوميات الأمير على أكثر من صعيد، فإن ما يزعزع الصورة المثالية للرجل ليست اللمحات الساخرة من القبيل الذي بدأنا به هذا المقال بقدر ما هي مفارقات حادة في الانفعال والسلوك وأخرى لا تقلّ حدّة مرتبطة بالمبادئ الأخلاقية والركائز الدينية بما يصل إلى حدود التناقض في آراء وسلوك شاعرنا العظيم وهي تتأرجح بين أكثر من طرفَي نقيض على شاكلة: سعة الصدر وسرعة التبرّم، الإيمان العميق وعدم الالتزام بالشعائر المقدسة لدرجة المجون، الوقار بداعي المقام الاجتماعي الرفيع والخفة تقرّباً إلى ذوي النفوذ أو مسامرةً مع المقرّبين من الرفاق، العلاقة الممالئة للسلطة والانفعال الصادق مع شؤون العامة وقضايا الأمة، الانحياز إلى العروبة والتعصّب للإسلام والنظرة الشاملة المتسامحة تجاه المعتقدات والقيم الإنسانية؛ ذلك على سبيل المثال لا الحصر بطبيعة الحال.
مهما يكن، تبدو سخرية شوقي كما لو كانت جزءاً أصيلاً من شخصيّته، جزءاً ليس فيه من عيب سوى لدى أولئك المتحيّزين إلى ترويج صورة مثالية عن العظماء في كل مجال. وعندما تكون السخرية مكوّناً يمكن أن يتجلّى في إبداع الشخصية العظيمة فيثريه على نحو ما نجد في غير قليل من شعر شوقي، فإن الإشارة إلى الجانب الساخر تكون أدبية محضة، وحين لا يكون ثمة مفرّ من أن تتجاوز الإشارة السياقَ الأدبي إلى إيحاءات السيرة الشخصية، فإن تلك الإشارة تجيء عادة بما يعكس في السخرية جانباً لطيفاً مخفّفاً أو حتى رزيناً يكاد يناشد القارئ أن ينفعل في هدوء ويضحك في تهذيب ووقار.
شوقي كان يعلم جيّداً مقتضيات الوجاهة الاجتماعية ومتطلّبات المقامات الرسمية، لكنه على الأرجح كان يطلق لسخريّته العنان حيثما اقتضى مقام ساخر مع جمعٍ من سمرائه أو في سياق قصيدة يلمز بها أيّاً من المقرّبين حبّاً وفكاهة.
أمّا في المقام الاجتماعي، من مثل ما انبعثت منه الإشارة العابرة التي بدأنا بها حديثنا هذا؛ فنراه ينادي المطربَ الصاعد حينها محمد عبد الوهاب - الذي كان يقيم في بيته - مداعباً: يا مخمد (بالخاء لا الحاء). وإذا كانت ممازحات الأمير مع أصدقائه واستجاباته حتى في المواقف الجادة تشير بوضوح إلى رسوخ السخرية في شخصيته، فإن المثالين العابرين اللذين عرضنا لهما ربما كانا أبلغ دلالة على تمكّن السخرية في شخصية شوقي، فهو لم يكن كما هو واضح ممّن يحبون ارتداء قناع الجدّ بين المقربين منه وإنما يترك نفسه تستجيب في مختلف المواقف على سجيّتها ولو جاء ضمن تلك الاستجابات ما قد يزعزع صورة الأمير الوقور؛ لكنه – للدقة – كان يعرف جيداً كيف يبقي صورته الرزينة متماسكة حتى وهو يفاجئ جلسائه ممازحاً أو ساخراً.
وأمّا في المقام الأدبي، فقد كان الأمير أيضاً يترك شيطانه الشعري ينطلق على سجيّته؛ فإذا أراد ذلك الشيطان أن يسخر ممازحاً الدكتورَ محجوب ثابت فإن الأمير لا يمسكه عن أن يقول متهكماً من سيارته ومخاطباً حصانه "مكسويني" الذي كان يجرّ عربة شهيرة له:
لَكُم في الخَطِّ سَيّارَه ** حَديثُ الجارِ وَالجارَه
كَسَيّارَةِ شارلوت ** عَلى السَواقِ جَبّارَه
إذا حَرَّكَها مالَت ** عَلى الجَنبَينِ مُنهارَه
وَقَد تَحرُنُ أَحياناً ** وَتَمشي وَحدَها تارَه
وَلا تُشبِعُها عَينٌ ** مِنَ البِنزينِ فَوّارَه
وَلا تُروى مِنَ الزَيتِ ** وَإِن عامَت بِهِ الفارَه
تَرى الشارِعَ في ذُعرٍ ** إِذا لاحَت مِنَ الحارَه
وَفي مَقدَمِها بوقٌ ** وَفي المُؤخِرِ زَمّارَه
فَقَد تَمشي مَتى شاءَت ** وَقَد تَرجِعُ مُختارَه
قَضى اللَهُ عَلى السَوّا ** قِ أَن يَجعَلَها دارَه
يُقَضّي يَومَهُ فيها ** وَيَلقى اللَيلَ ما زارَه
أَدُنيا الخَيلِ يا مَكسي ** كَدُنيا الناسِ غَدّارَه
لَقَد بَدَّلَكَ الدَهرُ ** مِنَ الإِقبالِ إِدبارَه
فَصَبراً يا فَتى الخَيلِ ** فَنَفسُ الحُرِّ صَبّارَه
أَحَقٌّ أَنَّ مَحجوباً ** سَلا عَنكَ بِفَخّارَه
وَباعَ الأَبلَقَ الحُرَّ ** بِأَوفَرلاند نَعّارَه
وَلَم يَعرِف لَهُ الفَضلَ ** وَلا قَدَّرَ آثارَه
القصيدة ذائعة الصيت في بابها، وهي على الأرجح ليست مما أغضب الدكتور محجوب مثلما أغضبته ممازحات أشدّ خشونة في حق عيادته ونظافتها لم يستطع أن يتجرّع سخرية الأمير فيها.
أمّا الأطفال، فيبلغ معهم الأمير من السخرية ما يعلم أنهم لا يستسيغونه فحسب بل يؤثرونه، وجلّ أشعاره للأطفال في الحيوانات وعلى ألسنتها إنما هو في قالب حكمة ساخرة أو سخرية حكيمة؛ يقول في الهرّة:
شُغلُها الفارُ تُنَقّي الـ ** ـرَفَّ مِنهُ وَالسَقيفَه
وَتَقومُ الظُهرَ وَالعَصـ ** ـرَ بِأَورادٍ شَريفَه
وَمِنَ الأَثوابِ لَم تَمـ ** ـلِك سِوى فَروٍ قَطيفَه
كُلَّما اِستَوسَخَ أَو آ ** وى البَراغيثَ المُطيفَه
غَسَلَتهُ وَكَوَتهُ ** بِأَساليبَ لَطيفَه
صَيَّرَت ريقَتَها الصا ** بونَ وَالشارِبَ ليفَه
بل إنه عندما يهنّئ ابنته بعامها الثاني لا يستطيع أن يخلّص عاطفته الحارّة من آثار السخرية اللاذعة:
أَمينَةُ يا بِنتِيَ الغالِيَه ** أُهَنّيكِ بِالسَنَةِ الثانِيَه
وَأَسأَلُ أَن تَسلَمي لي السـِنينَ ** وَأَن تُرزَقي العَقلَ وَالعافِيَه
وَأَن تُقسَمي لِأَبَرِّ الرِجالِ ** وَأَن تَلِدي الأَنفُسَ العالِيَه
وَلَكِن سَأَلتُكِ بِالوالِدَينِ ** وَناشَدتُكِ اللُعَبَ الغالِيَه
أَتَدرينَ ما مَرَّ مِن حادِثٍ ** وَما كانَ في السَنَةِ الماضِيَه
وَكَم بُلتِ في حُلَلٍ مِن حَريرٍ ** وَكَم قَد كَسَرتِ مِنَ الآنِيَه
وَكَم سَهَرَت في رِضاكِ الجُفونُ ** وَأَنتِ عَلى غَضَبٍ غافِيَه
وَكَم قَد خَلَت مِن أَبيكِ الجُيوبُ ** وَلَيسَت جُيوبُكِ بِالخالِيَه
وَكَم قَد شَكا المُرَّ مِن عَيشِهِ ** وَأَنتِ وَحَلواكِ في ناحِيَه
وَكَم قَد مَرِضتِ فَأَسقَمتِهِ ** وَقُمتِ فَكُنتِ لَهُ شافِيَه
وَيَضحَكُ إِن جِئتِهِ تَضحَكـينَ ** وَيَبكي إِذا جِئتِهِ باكِيَه
وَمِن عَجَبٍ مَرَّتِ الحادِثاتُ ** وَأَنتِ لِأَحدَاثِها ناسِيَه
فَلَو حَسَدَت مُهجَةٌ وُلدَها ** حَسَدتُكِ مِن طِفلَةٍ لاهِيَه
باستعارة التعبير المصري الذائع، يمكن أن نذهب إلى أن الأمير يبلغ من تمكّن الحس الساخر من طبعه ما يسوّغ وصفه بأنه "ابن نكتة"، لكنه لم يكن يدع ولعه بـ"النكتة" ينال من وقاره حتى في المجالس الخاصة حين تفلت السخرية من كل عِقال على نحو ما كان يحدث لصديقه الأثير حافظ إبراهيم على سبيل المثال؛ وليس في المقارنة الأخيرة هذه أيُّ تعريض بشاعر النيل الكبير، فقد كانت عفويّته أروعَ طباعه التي لم تقرّبه إلى أفئدة أصدقائه فحسب وإنما إلى وجدان الجماهير قاطبة.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])