د. محمد فياض: عمرو دياب الذهب الذي لا يصدأ

أكتب دائماً في هذه المنصة الكبيرة كمحب للفن والثقافة بعيداً عن صفتي الأكاديمية والعلمية، ولكنني اليوم أكتب كمؤرخ يؤمن تماماً أن عمرو دياب قطعة ذهبية أصيلة في تاريخ مصر، ذهب لا يصدأ... ملحمة من النجاح غير المنقطع، أيقونة البهجة والفرح والأيام الحلوة، كيان عمرو دياب يُدار بعقلية ورؤية صاحبه... كيان تمت إدارته عبر سنين طويلة باجتهاد وذكاء ومعرفة حقيقية، لم يركن عمرو دياب أبداً لكل الأمجاد التي صنعها وحققها، لم يكتفِ بكل ما حفره بحروف من نور في تاريخ الفن، بل دائماً ما يضع نفسه في اختبار وتحدي ومنافسة، ينافس عمرو دياب نفسه ويشرّع أيضاً قوانينه الصارمة التي يطبقها على نفسه بكل صرامة ... صرامة ضمنت له الاستمرار على القمة عبر عقود من الزمن، قوانين تراها في لحظات توتره قبل صعوده المسرح، أَبَعد كل هذه السنين وكل هذه النجاحات وكل هذه العالمية يتوتر؟ نعم؟ أيقلق على نجاحه؟ نعم. وهو قانون من قوانين الهضبة وقانون أصيل من قوانين النجاح.

عمرو دياب أيضاً يجسد تاريخ البهجة عند المصريين، فأينما سُمع صوت عمرو دياب فثم وجه البهجة والفرح وخفة الروح، تقرأ الكلمات فتبتهج وتسمع اللحن فتشعر بالسعادة ولكن ما إن تكتمل المعادلة بصوت عمرو دياب هنا تتضاعف البهجة فتقع أسيراً لشيء ما... شيء لا يمكن أن يحدث إلا بوجود صوت عمرو دياب في المعادلة، فتظل تدندن وتردد وتغني فتصاحبك الغنوة بنفس الصوت الذي رافق رحلتك وعلاقتك بالأشياء وبالحب وبتبدل الأيام والفصول.

المثير في الأمر أنه مع عمرو دياب هناك تأريخ من نوع خاص وهو تأريخ لرحلتك الإنسانية ولروحك ولعلاقتك بالفرحة والبهجة والخفة والحب، وبلغة علم النفس سيحدث لك حالة من تداعي المعاني وتداعي الذكريات ما إن تسمع أي أغنية لعمرو دياب، سيبدأ الانعكاس الحادث في روحك لاستدعاء شعورك المتزامن مع هذه الغنوة... فمع هذه الغنوة كنت تحب، ومع تلك كنت تنجح، مع ثانية كنت تحزن، مع ثالثة كنت تودع، مع أخرى كنت مغترباً، أو كنت موجوداً أو كنت ممتلئاً بالشغف أو فاقده... مع كل شعور هناك أغنية لعمرو دياب... الناجح المستمر المُدرك لعظمة ما حباه الله من موهبة ومن أمانة ومن رسالة عنوانها البهجة وتسيد القمة.

أدرك عمرو دياب أنه أمين على عمرو دياب... أمين على الموهبة وأمين على حالة التفرد والاستثناء، فنجاح مثل هذا لا يمكن أن يحدث بدون لياقة... لياقة بدنية ولياقة ذهنية ولياقة في التطوير والرؤية والفكرة... لياقة التطوير دونما إسفاف... لياقة أن يتشكل معدن الذهب ليساير الأذواق المتطورة في حداثتها والمجتمع في تطوراته ولكنه يبقى ذهباً ويبقى أصيلاً ويبقى مختلفاً.

يُدرك المؤرخون وعلماء الاجتماع أن حركة التطور في كل مجتمع من المجتمعات تأكل المهن وتأكل الأسماء وتنهي الأساطير، قاعدة صارمة أصيلة خضع لها الجميع، حدثت هذه القاعدة أيضاً في تاريخ مصر الفني باستثناء عادل إمام وعمرو دياب، فالثقافة الحقيقية وتفرد الرؤية وفهم أدوات التطور الاجتماعي والفني كل هذا جعلنا نقف بانبهار أمام حالتي التفرد في تاريخ الفن... الزعيم والهضبة!

عمرو دياب أيضاً مصري جداً يُدرك قيمة الجذور وقيمة الانتماء وقيمة الأصل، وهنا أتذكر مقابلة له مع الأستاذ عماد الدين أديب، كان الأخير يتساءل باستغراب: "إزاي عمرو دياب معملش لنفسه فرح كبير وعمل فرحه في قريته؟" استوقفتني إجابات الأستاذ عمرو دياب في جمل لا يفهم معناها إلا مصري حقيقي قائلاً: "الوالد الله يرحمه كان في حاجة جميلة قوي بيني وبينه إن مهما أنا وصلت من مراحل فهو عايش في جذوره وعايز يحسسني دايماً إن أصلك هنا مجاش معايا فكانت دي مؤثرة فيَّ جداً... وأنا عايز أبسطه فقولت له أنا مش عايز أي أوتيل ولا أي حاجة أنا عايز أتجوز لو جالي ناس من جنيف أو أي مكان كلهم لازم ييجوا القرية وعملت الفرح في القرية ودي كانت سعادتي وسعادة والدي إني أبسطه".

أكاد أُجزم أن عمرو دياب مثقف حقيقي وأن له فلسفة خاصة في الفن وفي حركة المجتمع وفي التجربة الملحمية التي تسيد فيها القمة، أكاد أُجزم أن لعمرو دياب جانباً غير مروي من الحكاية، النجاحات العظيمة لها دائماً جانب غير منظور، كمؤرخ أيضاً أتمنى لو أتيحت لي فرصة الكتابة عن تاريخ التفرد الفني في مصر، تاريخ القوة الناعمة، تاريخ هؤلاء الناجحين، كمؤرخ أتمنى لو أُتيح لي الوقوف على الجوانب غير المروية والحكايات غير المُعلنة، نجاح مثل هذا لابد وراءه من عقل استثنائي، وعقل مثل هذا لابد له من رؤية متفردة للتاريخ والفلسفة والثقافة وللفن.

ولأننا في شهر أكتوبر الجميل بكل ما فيه ومن فيه... في أكتوبر وُلد عمرو دياب، ولهذا كتبت بضع سطور لا تصلح حتى كمجرد مقدمة للحديث عن أسطورة فنية نعاصرها... قطعة أصيلة من الذهب المصري... ونجم دائم السطوع في سماء هذا الوطن... الهضبة... عمرو دياب.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: الشخصية متعددة الأبعاد والصورة المسطحة