"من حسن حظنا أننا وجدنا منزلنا بالمطرية سالماً لم يُمسّ بسوء بعد هذه الغيبة الطويلة... وقد عزا أبي وقاية البيت وسلامته إلى بركة لوحة كانت معلقة على المدخل مكتوب عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله. لذلك عندما تركنا المطرية أخذنا هذه اللوحة معنا فحلّينا بها مدخل منزلنا الجديد بالجيزة".
هذه لمحة من كتاب "أبي شوقي" لا تبيّن عمقَ إيمان شاعرنا فحسب وإنما إلى ذلك جانباً مهماً من اعتقاداته النفسية المتّصلة بالدين، وهو على كل حال عندما تتعلّق المسألة بالهواجس/الوساوس القهرية لا يبخل على قارئه بالغريب من أنماط سلوكه التي عرضنا لبعضها؛ وكُتّاب سيرته - مهما تكن اتجاهاتهم والعلاقة التي تربطهم به – لا يُغفلون هذا الجانب من تكوينه وحياته، إنْ بإشارات مباشرة أو إلماحات من طرف خفيّ؛ وهذا هو ابنه يذكر ما ذكر أعلاه وغيرَ قليل سواه بهذا السياق في مذكّراته عن أبيه الشاعر العظيم.
عن عقيدته وإيمانه، بقدر ما يمكن أن يتحدّث أحد بلسان/قلب غيره من الناس، يشير كُتّاب سيرته جميعاً تقريباً إلى رسوخ تلك العقيدة وعمق ذلك الإيمان. وإذا قال أنطون الجميّل – في كتابه "شوقي" – على هذا الصعيد: "نقر شوقي على وتر الدين فتغنّى بالإسلام غناءً جزلاً فخماً، بلا تصنّع ولا تكلّف، بل عن عقيدة وإيمان، فكستْ عقيدتُه نظمَه حلّةً قدسية، وعقد إيمانُه حول هذا النوع من شعره هالةً نورانيّة"، ثم أتبع قوله هذا بأمثلة من شعره وتعليقات قيّمة على تلك الأمثلة، فإن ذلك في الغالب هو منحى كل متعقّبي سيرة شوقي مع الدين تقريباً.
ولعل شفافية وجرأة أحمد محفوظ في "حياة شوقي" تلقيان ضوءاً لازماً لكشف مفارقة تديّن شوقي، لا مفارقة إيمانه بالضرورة؛ يقول محفوظ: "في الحق إني لم أصادف رجلاً مثل شوقي في قوة إيمانه وراسخ عقيدته. كان لا يصوم ولا يصلّي لاعتلال صحته. وأبى أن يحج مع عباس الثاني لإرهاق أعصابه، على يسر الرحلة وسهولتها، ولكنه كان عميق الإيمان عمقاً تغلغل في جميع كيانه. كان لا يذكر اسم الله مجرّداً قط، بل كان يتبعه بلفظَي سبحانه وتعالى. ولم يذكر اسم النبي مجرداً البتة، بل كان يصلي ويسلم عليه دائماً. وما مررت معه في طريق وصادفنا جنازة محمولة إلّا ووقف تعظيماً لها رافعاً سبابته متشهداً على الميت... ولا أشك أبداً أن كل قصائد شوقي الدينية إنما صدرت عن عقيدة وحب عظيمين".
أحمد محفوظ لم يكن في كتابه هذا شفافاً وجريئاً فحسب بل ماكراً أيضاً، لقد كان بارعاً في دسّ الإشارات الخفية؛ فإذا كان شائعاً أن المرض الشديد يعفي صاحبه من الصوم فليس معروفاً بحال أنه يرفع عن مسلم تكليف الصلاة عمود الدين وركن الإسلام الثاني؛ دع عنك الإشارة إلى تراجعه عن رحلة الحج رغم فخامتها ويسرها في موكب الخديوي، فلذلك الامتناع ما يمكن أن يبرّره بالنظر إلى هواجس شاعرنا القهرية حول المرض، فضلاً عن ضيقه بالمرافقة الطويلة التي تقيّد شيطانه الشعري المريد ولو كان المرافَق هو الخديوي شخصياً وإلى مقام ديني في قداسة ركن الإسلام الخامس.
لكن حتى إذا سلّمنا بصحة إشارة محفوظ حول تقاعس شاعرنا عن أداء الصلاة تذرّعاً بعذر واهٍ من قبيل مرض لم يفضِ بحال إلى "ذهاب العقل"، فإن ذلك ليس من شأنه أن يشكّك في رسوخ عقيدته وقوة إيمانه على نحو ما يتّضح من سيرته وتنضح به قصائده، سواء ذات الصلة المباشرة بالمناسبات والأبعاد الدينية المختلفة أو غيرها.
ولأن الإيمان المطلق الذي لا يتطرّق إليه الشكّ مستحيل، فربما كان حريّاً أن نقف عند هذه اللمحة البارعة من عزيز أباظة في مقدمته لسيرة شوقي بقلم أحمد محفوظ؛ وإذا كان أباظة ينتصر في خلاصة لمحته تلك إلى رسوخ إيمان شاعرنا فلنا على ذلك تعقيب ليس من باب المعارضة التامة ولكنه أساسٌ في سياقنا هذا؛ يقول أباظة: "ويسوق لنا المتنبي في فلسفة الموت أو في الشك الذي يخامر العقول فيه فيقول:
تخالف الناسُ حتى لا اتفاقَ لهم ** إلّا على شجب والخلفُ في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة ** وقيل تشرك جسم المرء في العطب
ويصور شوقي نفس المعنى، ولكن في صورة يندر مثيلها في شعر العربية فيقول:
سَأَلتُكَ ما المَنِيَّةُ أَيُّ كَأسٍ ** وَكَيفَ مَذاقُها وَمَنِ السُقاةُ
وَماذا يوجِسُ الإِنسانُ مِنها ** إِذا غَصَّت بِعَلقَمِها اللَهاةُ
وَأَيُّ المَصرَعَينِ أَشَدُّ مَوتٌ ** عَلى عِلمٍ أَمِ المَوتُ الفَواتُ
وَهَل تَقَعُ النُفوسُ عَلى أَمانٍ ** كَما وَقَعَت عَلى الحَرَمِ القَطاةُ
وَتَخلُدُ أَم كَزَعمِ القَولِ تَبلى ** كَما تَبلى العِظامُ أَوِ الرُفاتُ
تَعالى اللَهُ قابِضُها إِلَيهِ ** وَناعِشُها كَما اِنتَعَشَ النَباتُ
ولا يخفى أن ما قاله المتنبي معنى شائع في نفوس المرتابين، وأمّا شوقي فإنه دفع الشك بالإيمان بعد تغلغل شامل في معاني الموت وما بعد الموت".
تعقيبنا على كلام عزيز أباظة أعلاه ليس من باب المفاضلة بين الشاعرين على المستوى الفني ممّا قطعنا فيه لصالح الأمير على كل حال، ولكن ربما كان على سبيل المقارنة بينهما على المستوى العقيدي؛ وذلك رغم ما نعيناه على أبي منصور الثعالبي في "يتيمة الدهر" – على نحو ما أشرنا إليه في "التفتيش في قلب المتنبي" - حين أثبت الثعالبي الإيضاحَ عن ضعف العقيدة ورقّة الدين ضمن معايب المتنبي رغم تأكيده "أن الديانة ليست عياراً على الشعراء، ولا سوء الاعتقاد سبباً لتأخير الشاعر".
في المقتطف أعلاه الذي ساقه عزيز أباظة مثالاً، يبدو الأمير كما لو كان يتّخذ البيت الأخير بوصفه الحجة التي تشفع له بعد عربدة ظنونه العقيدية التي يسوقها على هيئة أسئلة تجول في أفئدة كل الناس لا في خاطره وحده؛ والراجح أنه كان بالفعل يستريح نهاية المطاف إلى نزعاته الروحانية من عبث وعناء أسئلة ومسائل الوجود المربكة والمراوغة، على اعتبار أن عقله مها يبلغ من التألّق الأدبي والسموّ الفكري لن يصل إلى فك شفرات معضلة الوجود بحال.
العقيدة والإيمان بالفعل ليسا عياراً على الشعراء؛ فقد حقق المتنبي سطوته في تاريخ الشعر العربي رغم الراجح من فساد عقيدته، أو على الأقل هشاشتها؛ في حين انتزع شوقي شارة السبق الفني في سماوات الشعر الغنائي العربي ونفحاتُ عقيدته لا تدغدغ مشاعر قرّائه فترسّخ جماهيريته الكاسحة فحسب، وإنما تبدو مؤثرة وملهمة بعمق في صلب إبداعه الفني.
بالفعل، أعجب الناس بالمتنبي بسبب اعتداده منقطع النظير بالذات، وفي الغالب أيضاً بسبب ثورته على كثير من المسلّمات، لا نقول بالضرورة بما في ذلك ما هو عقيدي منها ولكن على الأقل بتجاوز خروقاته العقائدية الواضحة؛ وأعجبوا في الوقت نفسه بشوقي رغم تراخيه الواضح مع السلطات حتى تلك التي لم تكن منحازة بحال إلى الجماهير، ورغم إذعانه الجليّ للمسلّمات بصفة عامة؛ ولكن مؤكداً بداعي نفحاته العقائدية الخالصة التي شكّلت – كما أشرنا قبل قليل - جزءاً أصيلاً من كلا تجلّيات عبقريته الفنية ومبرّرات اكتساحه الجماهيري.
والحال كتلك، سيخرج الباحث من التفتيش في قلب أيّ من الشعراء النابهين بما قد يعين على تفسير عبقريته الفنية وأسباب صيته الذائع مهما تكن طبيعة المكنون في قلب الشاعر من حيث الإيمان الراسخ بعقيدة ما أو نقيض ذلك من التمرّد على أيٍّ من المسلّمات بأيِ من الدرجات.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])