بافتراض استئذان مجازي مع بداية هذه المقالات "وددتُ لو أن أبا العلاء سمح لي باستعارة عنوانه (معجز أحمد)، بل بسحبه من الشاعر الأشد تأثيراً في تاريخ العرب الأدبي لإطلاقه على ما أراه بدوري الشاعر الأشدّ براعة وأغنى إبداعاً في التاريخ الأدبي نفسه، فيصبح بذلك "معجز أحمد" عنواناً مستحقاً لـشرح "الشوقيّات" أكثر مما هو عليه الحال مع شرح ديوان المتنبي".
بعدها بعشر مقالات، وتحت عنوان "ربة الشعر الشوقية"، ذكرت أنني "لا أميل إلى الإيمان بربّة الشعر أو حتى أولي الحديثَ عنها اهتماماً يُذكر، ولكن لو كان لا بدّ لي أن أفعل فلن يكون ذلك فيما يخصّ شاعراً مثلما يخصّ أحمد شوقي"، مشيراً إلى أنه "لم تكن سيرة أمير الشعراء، كما تتجلّى في طريقة وسرعة نظمه، هي وحدها ما يمكن أن يدفعني إلى التصديق بفكرة ربّة الشعر وفق تجربة متخيَّلة حول ضرورة اختيار شاعر واحد يُملَى عليه الشعر من علٍ، بل إن تذوُّق الأعمال الشعرية نفسها والإحساس بها – بمنأى تامّ عن أي علم بطريقة إبداعها – ربما كانا أبعث على الإيحاء بأن تدفّقاً عُلْوياً يكمن وراء خروج تلك التحف الأدبية إلى وجودنا بأقل تدخّل واعٍ من صاحبها".
بمزيد من الاقتطاف عن الموضع أعلاه نقترب أفضل ما يمكن ممّا نريده من هذا المقال: "أشرت إلى الفكرة في سياقات متعددة عبر مواضيع متباينة، وسأفيض فيها على الأرجح في عمل مستقل لاحق؛ ولكن على سبيل الإشارة العابرة هنا أوضّح أن المعني بربّة الشعر ليس بالضرورة ذلك الكيان الروحاني الفوقي، فمن الجائز ألّا يكون الأمر سوى نمط استثنائي من التدفق الهرموني الهائل والتفاعلات الكيميائية الخارقة في الدماغ ينفرد كمّاً ونوعاً عن ذلك السائد بين الآخرين من كبار المبدعين".
ولعل هذا هو العمل المستقل اللاحق الذي كنت أشير إليه، مع أنني لم أكن أخطّط لأن يكون عنوانه كما نرى ولا طريقة تناوله – التي تفرضها طبيعة العنوان - كما سيلي؛ غير أن الإنجازات العلمية والعملية البارزة – ممّا يصحّ وصفه بالنوعي – تفتح الآفاق بمستوى أعمق من الموضوعية لدراسة ما كنّا نقف إزاءه مندهشين من قبل؛ وجدير بالانتباه أن هذه الإنجازات المشار إليها لا تنفي الإعجاب بنمط الإبداع البشري الذي استولى على ألبابنا من قبل بقدر ما تعمل في الغالب على إضفاء مسحة من التوثيق العلمي المعتمَد على مسوّغات العبقرية التي خلبت ألبابنا بإبداعها.
"التدفق الهرموني الهائل والتفاعلات الكيميائية الخارقة في الدماغ" لم تكن تأثيراتها المفصّلة معروفة أيام الشعراء الفحول الأوائل في تاريخنا الأدبي عربيّاً، بل إن تلك التأثيرات لم تكن بوضوحها الذي هو تقريباً – بصرف النظر عن الاختلاف في تفاصيله - موضع إجماع الآن، ليس قياساً بالعصور الأولى للشعر العربي فحسب وإنما حتى بالنظر إلى الأيام التي شهدت إبداع أمير الشعراء قبل نحو مائة عام.
الهرمونات حقيقة علمية مقابل ربّة الشعر التي هي خيال غير ملموس بصرف البصر عن إمكانية وجوده بطريقة أو بأخرى؛ أمّا الذكاء الاصطناعي فقد تجاوز في زمن جدّ وجيز كونه مجرّد نظرية علمية واعدة إلى حيث أصبح واقعاً عملياً يقدّم خدماته الآنية المدهشة للجميع بلا انقطاع في كل مكان ومجال.
آليات عمل الهرمونات معقدة لا يعرفها الناس عموماً إلّا من باب تبسيط العلوم، وكذلك الأمر مع الذكاء الاصطناعي مهما يُسهِبْ متخصِّص في شرح طريقة عمل الخوارزميات والأدوات/التقنيات ذات الصلة كالشبكات العصبية (الاصطناعية) ومعالجة اللغة (الطبيعية) والتعلّم العميق، على سبيل المثال. في كل الأحوال، لا تملك الجماهير إلا التصديق والانتفاع ببركات الذكاء الاصطناعي التي كانت إلى وقت قريب تفوق الخيال حتى بالنسبة لبعض المختصين؛ أمّا طلاسمه الدقيقة فقد باتت مثل كل طلسم في أيٍّ من المنجزات العلمية معلومةً أو - للدقة – مصدّقةً بالبداهة بما لا يستدعي أي تشكيك في ضوء تجليات المنجز العلمي على أرض وسماء الواقع. هل نحتاج إلى الإلمام بكيفية عمل محركات الاحتراق والأجنحة وغيرها من أجزاء الطائرة لنستمتع بركوبها ونستفيد منها في الانتقال من قارة إلى أخرى في أقلّ ممّا بين عشية وضحاها؟
إضافة إلى ربة الشعر الخيالية وهرمونات الدماغ الواقعية، يمكن النظر إلى استثنائية طرائق إبداع أمير الشعراء في ظلال تشبيهها بآليات وتجلّيات عمل الذكاء الاصطناعي من حيث كونها خارقة في السرعة ومدهشة في روعة النتائج.
ولكن مهلاً، أليس حقيقة – على الأقل إلى الآن - أنه إذا كان الذكاء الاصطناعي قد أحرز انتصاراً كاسحاً على البشر من حيث سرعة الإنتاج، فإن روعة الإبداع وبصمته الفريدة لا تزالان حكراً على المبدعين الأصلاء، لا سيما أولئك الاستثنائيين من طراز الأمير؟
لا هرمونات الدماغ ولا خوارزميات الذكاء الاصطناعي من شأنها أن تزيل عن إبداع فني راقٍ وفريدٍ روعتَه وسحرَه، على الأقل إلى ساعة كتابة هذه الكلمات؛ أمّا ربّة الشعر فهي الخيال الذي لا يزال محلّقاً – إلى ساعة كتابة هذه الكلمات أيضاً – ليضفي على معجزات الإبداع مزيداً من الألق والجلال، وليستوعب – في الوقت نفسه – كلّ اكتشاف علمي جديد ذي صلة على أنه الآلية التي تشرح طريقة عمل ربة الشعر، أو ربما بوصفه ما ظلّت تجسّده تلك الربّة من حقائق وأوهام - في آنٍ معاً - على مدى تاريخ الإبداع.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])