عمرو منير دهب يكتب: شوقي مسرحيًّا

كل شاعر وكل مبدع يرنو إلى الخلود، لكن المبدعين الذين يدركون عميقًا أنهم من طراز رفيع يبدون على هذا الصعيد كما لو أنهم يعملون على إنجاز عملي قابل للتحقق لا مجرّد حلم غامض عصيّ المنال.

شوقي تحديدًا كان يعرف مكامن عبقريّته الأدبية (الشعرية تحديداً) بشكل دقيق؛ غير أن الأهم أنه كان بالغ الإدراك لما يتطلّبه تحقيق مجده الأدبي، ليس من العمل الجادّ على الصعيد الفنّي فحسب وإنما كذلك من نسج العلاقات المتشابكة التي تنبغي مواصلة غزلها وتعهّدها بالعناية ليل نهار، هذا إلى انتباهه على الأرجح إلى الأهمية العظمى لدور الحظ في تحقيق أي قدر من النجاح. وإذا كان الحظ يحقق نفسه وفق شروطه الخاصة بحيث لا يجدي السعي المباشر نحوه كونه لا يحدّد موقعه بأية إحداثيّات ولو تقريبية، فإن أهم أسرار الحظ على ما يبدو هو عدم التوقف عن الحركة في كل الاتجاهات الممكنة لتحقيق النجاح في المجال المنشود ليبتسم الحظ – أو ينفجر ضاحكاً – فجأة أمام مَن يسعى في مفترق طرق أو على أية نقطة من طريق جديد أو آخر كان قد سُلك من قبل. شوقي كان على الأرجح يعي ذلك تماماً، إمّا بوصفه رؤية واضحة أمامه وإمّا كيقين مستقر في منطقة ما من عقله الباطن يحرّكه بثبات وقلق في آن معاً.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: المبني للمجهول الجميل

رأى البعض أن شوقي نشد الخلود عبر مسرحيّاته الشعرية التي أنفق من أجلها بسخاء الأشهُرَ الأخيرة من حياته وهو على فراش المرض/الموت؛ وذلك أمر لا يخلو من الصحة، وإن يكن جديراً الانتباه إلى أن شاعرنا العظيم هذا لم يكن بالضرورة يرى مجده الأدبي في مسرحياته الشعرية على حساب شعره الغنائي الخالص بقدر ما رأى أن الفن الجديد الذي افترعه في الأدب العربي إضافةٌ يصحّ وصفها بالنوعيّة البارزة بموازاة إضافاته السابقة إلى الشعر الغنائي، وإن كنت أرى أن الأخيرة بدورها لا تقلّ نوعية ولا بروزاً، بل إنها الأبرز من بين مبرّرات تتويجه – المعنوي قبل المادي ممثلاً في احتفالية تكريمه في أبريل-مايو عام 1927 – أميراً على الشعراء الذين قصد بهم مَن بادر بخلع اللقب شعراءَ عصره، ولا أملّ من تكرار أن الرجل بزّ شعراء العربية الغنائيّين جميعاً على مرّ العصور.

في "اثني عشر عاماً في صحبة أمير الشعراء" يورد المؤلف ضمن ما جاء في رثاء شوقي عن جريدة العاصفة اللبنانية في بيروت ما يلي: "وإذا وضعنا كل ما نظمه شوقي في كفة والروايات التي أنشأها في آخر عهده في كفة وجدنا كفة الروايات ترجح وتميل؛ فإن شوقي لخالد في رواياته أكثر منه في قصائده مع كل ما تحويه هذه القصائد من روعة البيان ونفحة الخلود. ذلك أن شوقي لم يرتفع إلى المستوى الذي وقف دونه الأقدمون من الشعراء لا، فإن هناك فريقاً من زعماء القريض في العصور الغابرة تقدّموه، وإذا لم يتقدّموه في كل ما نظموا فقد وقفوا وإياه في صف واحد لا يسبقهم في المضمار ولا يسبقونه، أما في رواياته (مسرحياته) التمثيلية الشعرية فقد سبق الجميع، وكان قائداً مبتكراً مفتول الساعد متين العضل، صاحب العود... فما هان ولا كبا، ولا كان من المقلّدين".

تميل "العاصفة" اللبنانية بوضوح إلى ترجيح كفة شوقي المسرحي على كفة شوقي الغنائي؛ وإذا كنّا لا نقرّ هذا الرأي بحال، فإن الأهم لدينا في هذا المقام هو عدم إقرار آخر أحق بالإثبات يتعلّق بما ذكرته الصحيفة من أن "هناك فريقاً من زعماء القريض في العصور الغابرة تقدّموه"، لكن الصحيفة تعود مباشرة لتبدي بعض التحفّظ على إطلاق الحكم وتتدارك قائلة: "وإذا لم يتقدّموه في كل ما نظموا فقد وقفوا وإياه في صف واحد لا يسبقهم في المضمار ولا يسبقونه"؛ ولكننا لا نوافق حتى على هذه الصيغة التوفيقية، فإذا كان الحكم المطلق يبدو مسألة صعبة فإن تقدّم شوقي على كل الأقدمين من الشعراء العرب في أكثر من سياق غنائي – سواء أكان هذا السياق غرضاً بعينه أو على الأقل قصيدة تمّت معارضتها - مسألة ليست مستبعدة إلا من مدخل تعنّتي صرف من قبيل "تقديس القديم لمجرد كونه قديماً وحسب".

يذكر أحمد محفوظ أن شوقي كان بالغ الثقة في قصائده الغنائيّة بحيث لا يعرضها على أحد قبل النشر لإبداء الرأي والتعديل مثلما كان يفعل حافظ إبراهيم، ولكن الأمير كان يفعل ذلك باهتمام مع مسرحياته الشعرية. في "أبي شوقي" يقول حسين شوقي: "وكان إذا أتمّ إحدى هذه الروايات (المسرحيات) دعا إلى الكرمة بعض الأدباء والممثلين (وبخاصة المرحوم عزيز عيد) لتقرأ عليهم، فإذا رأوا تغيير أحد المناظر غيّره لهم في الحال، أي إنه ينظم عشرة أو عشرين بيتاً آخر بقدر ما يتطلّبه المنظر الجديد في لمحة بصر".

وبالعودة إلى محفوظ في "حياة شوقي" تحت العنوان الفرعي "مسرحياته" فإنه يقول: "كان شوقي يعتقد أنه كشاعر كبير لا يمكن أن يضمن الخلود لنفسه إلا بمسرحيات يقدمها للمسرح. وإن شكسبير وفولتير وموليير وغيرهم من شعراء المسرح إنما خلدتهم مسرحياتهم وليس قصائدهم، فما كاد يقرّ في نفسه هذا الاعتقاد حتى انكب على هذا النوع من الأدب.... وقد مكّنته هذه المسرحيات من الانطلاق إلى أوسع مدى في العبقرية لم تتجه إليه القصائد المفردة لموضوعاتها المحدودة بأغراض. وعندي أنه كان ينقص هذه المسرحيات الفن المسرحي العريق والحبكة المسرحية، رغم أنه كان يستعين بالمرحوم عزيز عيد وغيره من علماء المسرح، ولكن الاستعانة بالغير في الفن لا تقوم أبداً مقام الموهبة".

في المقتطف أعلاه محفوظ أشدّ دقة، فهو يرى أن المسرحيات أتاحت لشوقي آفاقاً شعرية لم يكن ممكناً ارتيادها مع قصائده الغنائية عظيمة القيمة، دون أن يذهب إلى أن قيمة مسرحياته الشعرية كانت أجلّ من قيمة قصائده الغنائية (المفردة).

أمّا عزيز أباظة في مقدمته لكتاب محفوظ هذا فقد كان بالغ الدقة بشكل فريد على هذا الصعيد إذ يقول: "وقد فتح شوقي أفقاً جديداً في سماء الأدب العربي حين اتجه إلى تغذية المسرح بألوان خلابة من الروايات الشعرية. ومهما اختلفت مقاييس الأدباء وخبراء المسرح في تقدير القيم الحقة لتلك الروايات، فهناك شيء يتفقون فيه ولا خلاف عليه، وهو أن شوقي أتى في مسرحياته من انسياق في الحوار، واتساق في المرائي، وإبداع في تصوير المواقف والشخصيات، أتى في كل ذلك بما يعيى الكثير عن إدراكه وبلوغ غايته، وإذا كان الهيكل الفني للرواية (المسرحية) لم يلق الدقة والإحكام على يد شوقي – كما يقول بعض هؤلاء – فما ذلك إلا لأن المسرحية الشوقية كانت في طورها الأول لم تستقرّ بعد".

غير أن أباظة لا يكتفي بذلك بل يواصل إلى حيث يلتمس لشوقي العذر حتى إزاء تحدّيات القواعد الفنية الصارمة لإبداع العمل المسرحي: "ومن ناحية أخرى فإن شوقي حين يضع الشعر في المكان الأول في مسرحياته فإنما يواكب الأوضاع التي تمثلت فيها المسرحية الشعرية في ذلك الوقت. وهذا مَعْلم أحب أن أعطف إليه النقاد علّهم يجدون فيه إيضاحاً لما استغلق عليهم فهمه في المسرحية الشوقية؛ فالثابت أن المسرحية الشعرية في مطلع هذا القرن كانت تعاني منافسة ذات خطر تشنها عليها المسرحية النثرية المجللة بالغار بعد تلك القيم الرفيعة التي صعد بها إليها إبسن ومدرسته. ويضاف إلى ذلك ما كان قد أصاب المسرح من تخلف في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن الماضي (التاسع عشر) بسبب إحجام فحول الشعراء عن تغذيته بإنتاجهم حتى كان الكثيرون منهم ينظمون مسرحياتهم لتقرأ لا لتمثل كما فعل الشاعر الكبير اللورد بيرون مثلاً".

لينتهي أباظة إلى أن "شوقي حين كتب مسرحياته لم يكن جاهلاً بالمسرح كما يحلو لنقاده أن يقولوا، ولكنه كان منفعلاً بشعراء المسرح الغربي وقتئذ فكان يتعالى بشعره أن تحدّه الأنماط والقواعد التي اصطلح كتاب المسرح على تسميتها بالحبكة المسرحية والحركة المسرحية وما إلى ذلك".

وتحت عنوان "روايات شوقي بك"، في "اثني عشر عاماً في صحبة أمير الشعراء"، يقول أحمد عبد الوهاب أبو العز: "كان الفقيد قد اشترك في مباراة التأليف المسرحي وقدم للجنة التحكيم ثلاث روايات له، وقد رأت وزارة المعارف تكريماً للفقيد وإعظاماً لأمره أن تعتبر هذه الروايات فوق المباراة".

لا أعلم شيئاً عن الأعمال الأخرى التي قُدّمت لتلك المسابقة ولا عن أصحابها، لكن شوقي كان يدرك على الأرجح أنه الفائز حتى لو أدخِلت مسرحياته في قلب المنافسة، بسبب مكانته الأدبية عموماً ولريادته على خشبة المسرح الشعري بصفة خاصة؛ أمّا اعتبار الروايات (المسرحيات) فوق المسابقة، فقد كان لمسة بارعة ومستحقة بالفعل، إنْ لم يكن لقيمتها الفنية الرفيعة فعلى الأقل لمكانة مبدعها الفريدة التي عمّقتها فداحة الغياب الصاعق لذلك الأمير الاستثنائي على ساحة القصيدة العربية الغنائية وفوق خشبة المسرح الشعري الفصيح في الوقت ذاته.