ليست مُوَجِّهات أصول الكتابة العملية الحديثة فقط هي ما يوصي بتحاشي صيغة المبني للمجهول وإنما إرشادات صياغة الأساليب على كل صعيد بما يشمل الصعد الأدبية أيضاً؛ وإذا كان ذلك مفهوماً مع أنماط الكتابة في المجالات العملية أو الأكاديمية الصرفة، فإنه يبدو غريباً بالنسبة للكتابات الأدبية لولا ما نعرف من غايات كل كتاب أو معلومة معدّة للنشر على أي وسيط/وسيلة هذه الأيام: الرواج وحصد أكبر عدد ممكن من القرّاء/المشاهدَات/المتابعين. الرواج من الصعب أن يتأتّى دون إشباع الفضول بطريقة مباشرة، وصيغة المبني للمجهول لا تراوغ في الإفصاح عن هوية الفاعل فحسب وإنما تحجبه تماماً وتترك للمتلقّي أن يحزره كيف يشاء فيما يشبه النهايات المفتوحة التي تخذل توقّعات أغلب القرّاء والمتلقّين في العادة.
نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: بين اللفظ والمعنى
غاية المبني للمجهول في النصوص الأدبية لا تكمن بطبيعة الحال في ضرورة إخفاء الفاعل لأنه غير معلوم أو لحساسية تتعلّق بالإفصاح عنه؛ وإنما هي مرتبطة - في الشعر بصفة خاصة - بضرورات بلاغية صرفة ذات دلالات متعددة ومتباينة من قبيل: التشويق، حض القارئ على التفكير والتفاعل مع النص، احتمال وجود أكثر من فاعل، الضنّ بالإفصاح عن كيان ثمين أو كائن رفيع المكانة، وحتى التعريض غمزاً ولمزاً. وكما هو واضح من تلك الدلالات – المسوقة على سبيل المثال – فإن بعضها يمليه الواقع والآخر يعمد إليه الكاتب/الشاعر عمداً، والمهم أن المبدع الرفيع يعرف في كلتا الحالين كيف يُكسِب صيغته المبنية للمجهول جمالاً بلاغياً لا بدّ منه على سبيل التعويض عن الحقيقة/المعلومة التي يفتقدها المتلقّي.
لأميرنا صيغ عميقة الدلالة والجمال البلاغي على هذا الصعيد، منها مثلاً في همزيّته النبوية:
تَغشى الغُيوبَ مِنَ العَوالِمِ كُلَّما ** طُوِيَت سَماءٌ قُلِّدَتكَ سَماءُ
الفاعل هنا معلوم نهاية المطاف، فهو الخالق العظيم، لكن البناء للمجهول يُدخل في إطار/قلب الصورة المتخيَّلة جوقةً عظيمة من (الملائكة) المُعينين على تنفيذ الأمر الإلهي بما يضاعف من احتمالات/طرائق الطيّ والتقليد/التتويج وما يكتنف كل احتمال من جمال/جلال محتملَ بدوره.
وفي قصيدته "هنيئاً أمير المؤمنين"، تهنئةً للخليفة بالنجاة من قذيفة ألقيت عليه في سبتمبر 1905، يبدع شوقي في أفعاله المبنيّة للمجهول، سواءٌ من حيث طلاوتها اللفظية بتنوّع اشتقاقاتها التي يفرضها جذر كل فعل وتركيبه أو بما أشرنا إليه من دلالات البناء للمجهول الأبعد غوراً وجمالاً من جهة البلاغة المعنوية:
نَجَت أُمَّةٌ لَمّا نَجَوتَ وَدُورِكَتْ ** بِلادٌ وَطالَت لِلسَريرِ حَياةُ
وَصِينَ جَلالُ المُلكِ وَاِمتَدَّ عِزُّهُ ** وَدامَ عَلَيهِ الحُسنُ وَالحَسَناتُ
وَأُمِّنَ في شَرقِ البِلادِ وَغَربِها ** يَتامى عَلى أَقواتِهِم وَعُفاةُ
على أن الأشدّ خصوصية في المثال أعلاه أن الأفعال المبنية للمجهول تتداخل مع رصيفاتها المبنية للمعلوم في البيت الواحد بحيث تبدو الجملة الشعرية كما لو أنها تموج بالقارئ صعوداً وهبوطاً ليس فقط بين ما هو معلوم وما هو مجهول وإنما في ثنايا الصور البلاغية بالغة الإيحاء ومتعددة الدلالات في الصيغتين على حدّ سواء.
وفي ذرى جماليات المبني للمجهول نقف لماماً مع أشهر أرباب الديباجات الشعرية الزاهية في تاريخنا الغنائي العربي، وذلك بتذّوق الأبيات المتفرّقة التالية الواردة ضمن واحدة من أشهر قصائد أبي عبادة البحتري، إن لم تكن أشهرها على الإطلاق:
مُغلَقٍ بابُهُ عَلى جَبَلِ القَبـ ** قِ إِلى دارَتَي خِلاطَ وَمُكسِ
أُفرِغَت في الزُجاجِ مِن كُلِّ قَلبٍ ** فَهيَ مَحبوبَةٌ إِلى كُلِّ نَفسِ
يُتَظَنّى مِنَ الكَآبَةِ إِذ يَبـ ** دو لِعَينَي مُصَبِّحٍ أَو مُمَسّي
مُزعَجاً بِالفِراقِ عَن أُنسِ إِلفٍ ** عَزَّ أَو مُرهَقاً بِتَطليقِ عِرسِ
لم يَعِبهُ أَن بُزَّ مِن بُسُطِ الديـ ** ـباجِ وَاستلَّ مِن سُتورِ الدِّمَقسِ
عُمِّرَت لِلسُرورِ دَهرًا فَصارَت ** لِلتَعَزّي رِباعُهُم وَالتَأَسّي
وليس مستبعداً أن تكون جماليات مبني البحتري للمجهول قد ألهمت أميرنا جماليات مبنيه للمجهول، فشوقي كان بالغ الانتباه إلى مكامن الجمال اللفظية وأسرار البلاغة المعنوية التي يمتاز بكلٍّ منها كلُّ شاعر من الفحول على حدة، ولم يكن أقصى طموحاته أن يدرك الغايات المنطلقة من تلك المكامن الجمالية والأسرار البلاغية بل أن يتجاوزها جميعاً؛ نقول ذلك مع انتباه خاص للذروة التي تبدو متفرّدة في الأمثلة الواردة أعلاه من سينية البحتري على هذا الصعيد.
بلاغة المبني للمجهول لدى شوقي، بالإضافة إلى ما تتضمنه من الدلالات المعنوية، هي جزء عابر من بلاغته اللفظية وروعة ديباجته (الأسلوبية) الشاملة. في هذا السياق نقرأ ما يلي ممّا أورده أحمد عبد الوهاب أبو العز في كتابه "اثني عشر عاماً في صحبة أمير الشعراء"، ضمن ما جاء في رثاء الأمير، وذلك تحت العنوان الفرعي "نشر في مجلة النيرايست الفصل الآتي تعريبه"، نقرأ: "والواقع أن الشاعر الفرنسي (بول فاليري Paul Valéry) تأثر بقراءة كتاب ألف ليلة وليلة الذي ترجمه الدكتور ماردوس وأهداه إلى فاليري نفسه. والاثنان شوقي وفاليري يحسنان موسيقى الألفاظ، ذلك العلم الخفي الذي يستمد من غير المنظور مؤثرات نادرة؛ ففنّهما يتألف من أوزان محكمة وتنغيم وتوافق مع أمواج من التناسب، وكلاهما يعنى بالألفاظ كما كان يفعل شكسبير الذي قال عنه بعضهم إنه يحب الألفاظ من أجل الألفاظ".
لست متأكداً من أن ما قيل عن شكسبير كان بداعي المدح أم الذمّ، ولكن الاهتمام بالألفاظ من أجل الألفاظ ليس عيباً بحال إذا لم يكن خصماً على حساب المعنى، ولا أعتقد أن ألفاظ الشاعر الإنجليزي الكبير كانت على حساب معانيه العميقة، تماماً كما هو الحال مع أميرنا العربي هذا على نحو ما أجملنا وفصّلنا في أكثر من مقام مضى.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])