لا أميل إلى الإيمان بربّة الشعر أو حتى أولي الحديثَ عنها اهتماماً يُذكر، ولكن لو كان لا بدّ لي أن أفعل فلن يكون ذلك فيما يخصّ شاعراً مثلما يخصّ أحمد شوقي.
لم تكن سيرة أمير الشعراء، كما تتجلّى في طريقة وسرعة نظمه، هي وحدها ما يمكن أن يدفعني إلى التصديق بفكرة ربّة الشعر وفق تجربة متخيَّلة حول ضرورة اختيار شاعر واحد يُملَى عليه الشعر من علٍ، بل إن تذوُّق الأعمال الشعرية نفسها والإحساس بها – بمنأى تامّ عن أي علم بطريقة إبداعها – ربما كانا أبعث على الإيحاء بأن تدفّقاً عُلْوياً يكمن وراء خروج تلك التحف الأدبية إلى وجودنا بأقل تدخّل واعٍ من صاحبها.
نرشح لك : عمرو منير دهب يكتب: ليس مجدِّداً فحسب
أشرت إلى الفكرة في سياقات متعددة عبر مواضيع متباينة، وسأفيض فيها على الأرجح في عمل مستقل لاحق؛ ولكن على سبيل الإشارة العابرة هنا أوضّح أن المعني بربّة الشعر ليس بالضرورة ذلك الكيان الروحاني الفوقي، فمن الجائز ألّا يكون الأمر سوى نمط استثنائي من التدفق الهرموني الهائل والتفاعلات الكيميائية الخارقة في الدماغ ينفرد كمّاً ونوعاً عن ذلك السائد بين الآخرين من كبار المبدعين.
مما ورد في افتتاحية جريدة الأهرام يوم 15 أكتوبر 1932 في رثاء/تأبين شوقي، نقلاً عن كتاب "اثني عشر عاماً في صحبة أمير الشعراء" لأحمد عبد الوهاب أبو العز (نسخة على الإنترنت)، ما يلي: "وكان شوقي شاعراً وهو طالب في المدرسة وقد أخذت إلاهة (إلهة) توحي إليه بالصور الجميلة والكلام الموزون الموسيقي". هذا مما يمكن أخذه على أنه كلام عام حول طبيعة الإلهام بالنسبة لأي شاعر، ولكن من الواضح عند الحديث عن طريقة شوقي في النظم وفرادة شعره أن مسألة الإيحاء السماوي كثيراً ما تستولي على فِكر المتلقي أو الناقد كما لا يحدث عند الكلام عن غير شوقي من الشعراء.
وفي الكتاب نفسه، تحت عنوان "كيف ينظم الشعر"، يقول المؤلف الذي كان كاتب/سكرتير شوقي الخاص: "كان رحمه الله وعزّى العربية عن فقده ينظم الشعر في أي وقت شاء وفي أي مكان أراد، فكان ينظمه جالساً وماشياً ومسافراً ومقيماً، وكان ينظمه وهو وحده وأيضاً وهو مع أصدقائه أو زوّاره، وكذلك كان ينظمه فرحاً وحزيناً، كما كان ينظمه وهو مجد لأي عمل أو (وهو) لاهٍ بأي منظر".
ويقول في الموضع ذاته بعد فقرة: "ومرة أخرى منذ عشرة أعوام جاء من منزله في المطرية فوجدني في المكتب الساعة 11 ونصف فأملى عليّ ثمانية وعشرين بيتاً من قصيدته التي مطلعها قفي يا أخت يوشع خبّرينا، ثم قال لي لا تبتعد عني حتى إذا جاءني شيء أمليته عليك، وخرج يمشي حول العمارة، فكان كل بضع دقائق يعود فيملي عليّ خمسة أو ستة أو سبعة أبيات. وأخيراً دخل المكتب وجلس على مقعد وأخذ يمر براحته اليسرى على رأسه ففهمت أنه ينظم في سرّه لأنه كثيراً ما كان يفعل ذلك أثناء النظم، ثم قال اكتب فكتبت، ونظرنا الساعة فإذا هي الواحدة بعد الظهر، فقال كفى أعطني ما كتبت لأني على موعد في هذه الساعة مع داود بك، فقدمتها له بعد أن عددت أبياتها ووجدتها أربعة وثمانين بيتاً".
وإذا كان ما سبق دلالة على سلاسة تدفّق الإلهام وثراء الشاعريّة، فإنه ليس بالضرورة دليلاً قاطعاً على أنّ لشوقي ربّة شعر بالمعنى التقليدي المتداول بقدر ما هو تصوير للطريقة التي تعمل بها تلك الربّة في حال وجودها؛ وربما كان ذلك دليلاً على ثراء هرمونات الأمير المتدفقة وصخب التفاعلات الكيميائية في المنطقة المعنية بالإبداع الشعري من ذلك الدماغ الفريد في حال ملنا إلى تفسير علمي يضرب بجذوره في الواقع ولا يشرئبّ إلى السماء بخيالات أزلية متواترة عن طقوس العملية الإبداعية الساحرة.
ولعل دلالةً أشدّ عمقاً على ما أشرنا إليه في الفقرة أعلاه أدنى التماساً في الفقرة التالية بالكتاب مما يلي مباشرة موضع اقتطافنا السابق: "وفي مرضه كان ملازماً المنزل تقريباً وكنتُ تارة أقرأ له في بعض الكتب وتارة كان يحدثني عن مرضه وعما يحسّه من عوارضه؛ تارات أخر كان يملي عليّ ما ينظمه في رواياته الأربع قمبيز، علي بك، البخيلة، هدى. وقد كان يشتغل في الأربعة معاً فيمليني قائلاً اكتب في رواية قمبيز، ثم إذا انتهى يقول اكتب في علي بك، إلخ. وربما انتهى من الإملاء وقال انتظر قليلاً، فربما يأتي شيء. وقد كان يحدث كثيراً أن يدخل علينا زائر أو زائرون فيحدثهم ويحدثونه حتى إذا انتهت هذه الزيارة واستأذنوا التفت إليّ وقال اكتب، فيسرع في الإملاء وأسرع في الكتابة كأنه لم ينقطع ولم يكن مشغولاً باستقبال أحد بل كأن أحداً لم يقطع عليه ما كان ذهنه يعمل فيه. وفي مرة لاحظ دهشتي من قدرته هذه على نظم الشعر فقال لا تظن أن محادثتي للناس تعطلني عن عملي. وقال لي صديق له (يكمل المؤلف) لقد لازمته في ليلة في بوفيه لابرومينات على كوبري قصر النيل وكان ذلك قبل الحرب، فشرع يعمل في قصيدة النيل التي مطلعها: من أي عهد في القرى تتدفق ** وبأي كف في المدان تغدق، وكان كل نصف ساعة يركب مركبة خيل ويسير في الجزيرة بضع دقائق ثم يعود إلى المنضدة التي كان يجلس إليها فيكتب عشرة أو اثني عشر بيتاً، وهكذا حتى انتهت القصيدة في ليلة إلا بيتاً استعصى ولم يتمكن منه إلا بعد يومين".
وبالمثل، فإن استعصاء بيت واحد يحمل الدلالتين المتوازيتين أو المتناقضتين: تعنّت ربّة الشعر السماوية أو توقّف هرمونات/كيمياء الدماغ عن حموّة التفاعل.
على أن شاعرنا العظيم كان يعرف كيف يتوسّل إلى ربة شعره/كيمياء دماغه، فبعد فقرة من موضع اقتطافنا السابق في الكتاب نقرأ: "وكان إذا شغلته أشياء عن قصيدة طُلب إليه عملها ولم يتذكّرها إلا قبل ميعادها بساعات أو عند طلبها ابتسم وطلب أن يتناول صفار ثلاثة من البيض التي يشربها نيئة ثم يبدأ في النظم فلا تمضي ساعة حتى تكون القصيدة في يد طالبها".
وفي المقتطف التالي عن كتاب "حياة شوقي" يروي أحمد محفوظ ما يصحّ أن يُنظر إليه بوصفه الطريقة التي كان يطارد بها الأميرُ ربّةَ شعره: "وإذا استعصى عليه معنى نافر أراد اقتناصه وترويضه ليستقيم لفظه مع روي قصيدته، هبّ مذعوراً وخلّف جلساءه بغير تحية أو اعتذار وخرج كأنه هارب من طلب. وقد ترك عمله هذا في نفوس جلسائه مرارة وألماً، فقد طالما ظنّوا أنه يتعمّد إهمالهم والاستهانة بهم... وكان إذا أفلت من مجلسه وترك جلساءه من غير نظرة، طاف على قدميه بمقدار ما يروض هذا المعنى، حتى إذا استقاد له رجع وأملى على كاتبه أبياتاً من قصيدته المنوية، ثم انصرف إلى الجلوس ثم إلى الهروب، هكذا دواليك حتى تتم القصيدة".
لم تكن ربّة الشعر الشوقيّة الفريدة، أو هرمونات/كيمياء دماغ الأمير الاستثنائية، غائبة بطبيعة الحال عن مريديه، لا سيّما من الشعراء؛ يقول أحمد محفوظ: "وكان الأستاذ أحمد نسيم الشاعر مفتوناً به، وكان يقول لي بعد موته: أين سيذهب هذا الشعر الذي كان يلمّ بهذا الرأس العبقري؟".
كأنّما أحمد نسيم بذلك التساؤل (البريء؟) يمنّي نفسه أن تحطّ هرمونات شوقي بدماغه أو تختاره ربةّ الشعر الشوقيّة فتطوّف حول رأسه بُعيد رحيل محظيّها السابق.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])