هل يعيب النفاق شاعراً؟ إجابتي الشخصية: نعم، ولكنها إجابة من شأنها أن تنسف قسماً عظيماً من تاريخنا الشعري الغنائي، إنْ لم تنسف ذلك التاريخ مجملاً.
عبّرت قبل أكثر من ثلاثة عقود لأبي عن ضيقي بسلوك شاعر مرموق جمعنا لقاء بصديق له لا يبدو أنه كان مخلصاً تماماً للشاعر المشهور، أو لعله كان ضائقاً بشهرته الطاغية على حسابه وحساب غيره بحسب ما سرد لي ولمجموعة من الأصدقاء من قصص تعبّر عن انتهازية الشاعر الشهير وتقرّبه إلى ذوي السلطة والنفوذ أحياناً بقصائد لم ينظمها هو. وعندما بالغت في التعبير عن تبرّمي بالشاعر المرموق وسلوكه بحسب قصص صديقه اللدود ذاك الذي لم يكن يبدو عليه أنه يلفّق تلك القصص، عندها بادرني أبي بلهجة استنكار مهذبة مذكّراً بأن أثيري المتنبي كان يفعل الشيء نفسه تزلّفاً إلى الحكام من كل جنس ومذهب، وإنْ يكن ليس عبر الاستيلاء على قصائد أصدقائه الشعراء، على الأقلّ بحسب ما نعلم.
خضّني استنكار أبي المهذّب، وبفعل كبرياء الشباب العنيد قمت على الأرجح بمحاولات للتبرير متكلِّفاً التفرقة بين مواقف المتنبي وسلوك شاعرنا ذاك. لم يجادلني أبي كعادته فتركني بابتسامة خفيفة – هي مزيج من الود والثقة والسخرية المهذبة – أهنأ بانتصار وهْمي كنت في الواقع متشكّكاً في أحقيتي به منذ الوهلة الأولى، لكن ذلك الشك قد تعمّق لديّ بعدها لأخلع شيئاً فشيئاً عن المتنبي وعن كل شعراء العربية مسوح القداسة الأخلاقية مكتفياً بما أسبغه عليهم التاريخ من مسوح الجلال الأدبي.
على الصعيد الشخصي بالنسبة لي يعيب النفاقُ المرءَ شاعراً كان أم غير شاعر، لكن من المهم الانتباه إلى أنه يصعب أن نصنّف الناس إلى قسمين بينهما حائط راسخ أو حتى خيط رفيع: منافقين وغير منافقين؛ الصفات المتناقضة تتداخل فينا جميعاً بدرجات متفاوتة بما لا يمكن إنكاره، وإن يكن من الطبيعي أن يستبدّ أحد طرفَي النقيض ببعض الناس ويستبدّ الطرف المقابل بآخرين على هذا الصعيد الأخلاقي وذاك؛ ومن المهم الانتباه بصورة موازية إلى أن الأخلاق عموماً منطقة جدال شديدة التداخل والتشابك والتعقيد في تفاصيلها وخطوطها العريضة خاصة عندما تكون المواقف التي تستدعي التقييم الأخلاقي في ظلالها شديدة التعقيد بدورها، ومن أبرز تلك المواقف ذلك الذي وجد أنفسهم فيه – أو دُفِع إليه دفعاً – الشعراءُ الكبار الذين كان لا سبيل لعبقريتهم إلى الهروب من السلطة.
وإذا كان قدَر الأدباء والمبدعين الكبار بصفة عامة أن يعملوا في ظلال السلطة، فإن ذلك لم يكن يستدعي دوماً التزلّف إلى السلطات ضمن مضمون عملهم الفني، في حين بدا ذلك التزلّف مستحكماً في قلب الموضوع الفني للشعراء العرب الغنائيين على امتداد تاريخهم الأدبي، سواءٌ بقصائد المدح المباشرة أو بالتعبير عن آرائهم ومشاعرهم خلال اقتحامهم ما دقّ أو عظم من شؤون الحياة حول السلطة الحاكمة.
في "شوقي: صداقة أربعين سنة" الصادر سنة 1936، نقلاً عن طبعة مؤسسة هنداوي بالقاهرة سنة 2020، يقول شكيب أرسلان: "وقد عاب بعضهم على شوقي قضاء عمره في مدح الأمير ومدح السلطان والإشادة بذكر ذوي السلطة، وربما عابونا نحن أيضاً لمثل ذلك وغمزوا بالكثيرين الذين وقفوا أشعارهم على مدح الأمراء والملوك وزعموا أن في ذلك دليلاً على طلب الزلفى أو التماس الجائزة. والجواب على ذلك يحسن بنا أن نوضحه إيضاح مَن لا يُبقي عليه ظلمة الإبهام... فالشاعر الذي يتّصل بملك من الملوك أو أمير من الأمراء سواء في شرق أو غرب لم يكن يجد من الغضاضة في شيء التغنّي في مدح سيّده، حتى لو لم يكن أهلاً لكل ذلك الإطراء، لأن مثل هذه الطبقة من الشعراء والأدباء يذهبون إلى أن الكلام إنما هو للمقام لا للمقيَّم، وأن المقام إنما هو رمز الأمة وعنوان الملة... فعندما يهتف شوقي ومَن في نمطه بتلك القصائد الرنّانة، إمّا في مدح عزيز مصر أو في مدح الخليفة الأعظم، فإنما هو في الحقيقة يشيد باستقلال مصر في وجه الأجانب الطامعين المستأثرين بالأمر".
في الواقع لم يتضح الأمر بحيث انقشعت ظلمة الإبهام كما كان يؤمّل شكيب أرسلان، فمدح الرجل بما ليس فيه مما يستحق الوصف بالنفاق خاصة إذا كانت الذرائع على شاكلة تلك التي أوردها أرسلان، فالإشادة باستقلال الوطن في وجه الأجانب عمل عظيم لا شك أن شوقي كان يقصده ويسعد به، لكنه في غضون ذلك كان يقصد أيضاً – وربما ابتداءً – الثروة والشهرة؛ والأهم أنه لم يكن دوماً ينشد التنديد بالأجانب، فحكّام مصر حينها كانوا أجانب أيضاً؛ والأمر شديد التداخل كما أشرنا من ناحية المواقف ومن حيث التأصيل/التخريج الأخلاقي، فبالنظر إلى أصول شوقي غير المصرية نفهم كيف لا يرى شاعرنا أولئك الحكام أجانبَ، فهم أقرب عرقاً إليه من أهل مصر المقيمين فيها لآلاف السنين، وهم بعدُ مسلمون، والنزعة الدينية شديدة الرسوخ لدى شوقي كما سنرى في مقام قادم.
لكن شوقي لم يكن في كل الأحوال يحسن الوقوف في وجه "الأجانب الطامعين المستأثرين بالأمر" بحسب تعبير شكيب أرسلان، وتباطؤه سنة كاملة في الالتفات بقصيدة إلى حادثة دنشواي أشهر الأمثلة على ما يعتبره خصومه "الأخلاقيون" تخاذلاً وطنيّاً لا يحتمل الجدال. أمّا موقفه من أحمد عرابي قبلها فلم يقتصر على التخاذل وإنما تعدّى ذلك إلى هجوم مباشر بل إلى هجاء صريح يتضمّن من التهم ما على شاكلة الصَّغار والكذب والذلة والجهل:
صَغار في الذهاب وفي الإياب ** أهذا كل شأنك يا عرابي
عفا عنك الأباعد والأداني ** فمن يعفو عن الوطن المصاب
وما سألوا بنيك ولا بنينا ** ولا التفتوا إلى القوم الغضاب
فعش في مصر موفور المعالي ** رفيع الذكر مقتبل الشباب
أفرق بين سيلان ومصر ** وفي كلتيهما حمر الثياب
يتوب عليك من منفاك فيها ** أناس منك أولى بالمتاب
ولا والله ما ملكوا متابا ** ولا ملكوا القديم من العقاب
ولا ساووك في صدق الطوايا ** وإن ساووك في الشيم الكذاب
حكومة ذلة وسراة جهل ** كعهدك إذ تحييك الطوابي
وإذ ضربوا وسيفك لم يجرَّد ** وإذ دخلوا ونعلك في الركاب
وإذ ملئت لك الدينا نفاقا ** وضاقت بالغباوة والتغابي
وإذ تُقنى المعالي بالتمنى ** وإذ يغزَى الأعادي بالسباب
وإذ تعطَى الأريكة في النوادي ** وتعطَى التاج في هزل الخطاب
هذه قصيدة رفيعة القيمة من الناحية الفنية في باب الهجاء، لكن كان الأولى بها مؤكداً غير عرابي. المواقف السياسية شديدة المراوغة والتملّص، ومن قبلها المواقف الأخلاقية - كما أشرنا – على غير ما نحب أن نقنع أنفسنا به؛ فالمسألة ليست أن عرابي بطل مقدّس لا يجب المساس به بقدر ما تكمن الحكمة في ضرورة النأي عن التورّط في بعض المعضلات السياسية إلى حدّ كيل الهجاء الصريح لرجل ذي قاعدة جماهيرية كاسحة ترفعه إلى مصاف الأساطير. شوقي لم تكن تنقصه الحكمة بحال، وفيما يلي أطراف من حادثة بين شوقي وعرابي تلقي أضواء من شأنها أن تكشف كيف أن حكمة شوقي وحدها لم تكن كافية لتجنيبه مزالق هجاء الزعيم الوطني البارز.
في كتاب "حياة شوقي"، تحت عنوان "شوقي وعرابي"، يقول أحمد محفوظ: "وقد اعتذر شوقي عن هجوه لعرابي بإقصاء قصيدته فيه من ديوانه، فلم يثبتها فيه، رغم أن الجزء الأول وهو في السياسة قد أخرجه في عهد الملك فؤاد وهو أخو توفيق ووارث عرش محمد علي. وعرابي موقفه من هذا العرش معروف مشهور. وقد كانت جرأة من شوقي طرحُه هذه القصيدة عن ديوانه في عهد فؤاد اليقظ المتعصب لأسرته. وقد سمعت منه رحمه الله أن عباس الثاني هو الذي أمره بأن يهجو عرابي ففعل، ولم يستطع تحللاً من هذا الهجو لمكانه بين توفيق وعباس. وما لنا ننسى وفاءه لتوفيق وهو الذي أحسن إليه كما عرفنا. وحدثني أيضاً أنه كان قادماً من الإسكندرية إلى القاهرة في القطار، حتى إذا جاء طنطا دخل عرابي الصالون الذي كان يجلس فيه عفواً، فلما بصر به شوقي وقف ورحب به ودعاه إلى الجلوس فجبّهه عرابي وردّ عليه ردّاً صارماً وتركه واقفاً خجلاً. قال شوقي: لو تفضل وجلس معي لاعتذرت إليه، وكنت أنوي ذلك، ولكنه أبى وانصرف".
بعيداً عن مزالق المنعطفات السياسية ومآزق المراسيم الخديوية بضرورة اتخاذ هذا الموقف وذاك من زيد أو عمرو من الشخصيات المؤثرة في مصر والعالم أجمع، كيف كانت طباع شوقي ومواقفه الشخصية الصرفة مع الناس من حوله على اختلاف مشاربهم؟
تحت عنوان "كان يصاحب من لا يلائمه"، من كتاب "حياة شوقي"، يقول المؤلف: "لقد كان هذا الشاعر العظيم الغواص في خفايا النفوس البشرية تراه أحياناً كثيرة جالساً مع طائفة من أولاد الذوات في جروبي، وبينهم المرحوم عزيز عثمان صديق هذه الطائفة ورائدهم وهو يخوض معهم في التافه من النقاش. وكان وهو بينهم كأنه أحد أبناء الاقطاعيين العاطلين من كل شيء إلا المال والحسب والرفاهة والتفاخر بالآباء والثراء. وكان يقدّمهم لجلسائه والوافدين عليه من السادة العلماء وكبار الأدباء منوهاً بآبائهم وكريم عروقهم وأصولهم. والظاهر أن تلك العادة في صحبة هؤلاء غلبت عليه ورسبت في نفسه أيام خدمته الطويلة في قصر الخديو، الذي كان لا يعرف لأحد مكانة إلا لهؤلاء الكسالى المجدودين. وربما انتقل من هذا المجلس التافه إلى آخر ضم كبار أهل السياسة والرأي والصحافة والعلم فجالسهم وحاورهم في منتوج عقولهم وجلائل أبحاثهم. وكان يختار من هؤلاء آحاداً عرفوا بانحراف في التفكير جعلهم عجائب زمانهم فاختصهم بأكثر وقته وطاولهم السهر حبّاً منه في مجالسهم والتمتع بهم".
بتجاوز المراوغة الكامنة في تحديد مواضع النفاق، ومن قبلُ في تعريف الأخلاق ذاتها، قد يعيب النفاق أخلاقَ الشاعر العظيم، ولكنّ الحكم النقدي على الفن من الوجهة الجمالية الخالصة يستعصي - لسوء الحظ أو لحسنه - على الارتباط بالأخلاق، شريطة إرهاف السمع إلى صوت الضمير النقدي مجرّداً، على قدر ما يمكن التجريد.
للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])