عمرو منير دهب يكتب: صوري الذاتية

صورتي الذاتية هي ترجمتي لـ Self-Portrait بالإنجليزية التي تشير إلى رسم بعض الفنانين لأنفسهم، وتحديداً لوجوههم بحسب مفاد الكلمة Portrait التي تدل على رسمة الوجه تحديداً بموازاة دلالتها على أية لوحة مرسومة على وجه العموم؛ كل ذلك بعيداً عن التعقيدات الاصطلاحية الدقيقة من وجهة النظر الأكاديمية الصرفة في دراسة الفنون.

ولأن ما أعنيه هو صوري الملتقطة بالكاميرا، أية كاميرا، فربما كان الأدق أن أشير إلى صوري تلك باستعمال مصطلح Selfie شديد الرواج؛ ولكن الواقع أنني لا ألجأ إلى الـ "سيلفي" إلّا مضطراً عندما لا يكون ثم مَن يعينني على التقاط صورة لي، أو – للدقة – عندما يضيق مَن حولي ذرعاً بطلباتي التي لا تنتهي على هذا الصعيد كلّما سنحت الفرصة؛ والحق أنني أسعى إلى التقاط تلك الصوَر بمناسبة بارزة وبأخرى أصطنعها اصطناعاً، ولي في ذلك فلسفة أزهو بها تتجاوز بثقة تهمة حب الذات Self-love التي يُعرِّض بها المنزعجون حولي - في تهذيب – من كثرة طلباتي الموجّهة إليهم لالتقاط الصور لي، فضلاً عن التماس إعادة التقاط الصورة نفسها من مختلف الزوايا، وأحياناً من نفس الزاوية ولكن بدقّة أفضل.

لا غضاضة ابتداءً في حبّ الذات، وربما كان المصطلح الفرنسي Amour-propre أكثر رحابة، كونه يفيد بموازة حب الذات تقديرَها Self-esteem، وعندي أن الاثنين يفضي أحدهما إلى الآخر ولا غضاضة في أيٍّ منهما إلا عندما يتجاوز الحدود، أي قدرة الآخرين على الاحتمال. ولكن عندما يتعلّق الأمر بالفنانين المولعين برسم وجوههم بمختلف التعابير ومن مختلف الزوايا فإن العبرة تكمن تحديداً في تجاوز الحدود، فالفن ينطلق من المبالغة، أو – للدقة – من رهافة القدرة على التقاط غير العادي فيما يراه الآخرون عاديّاً؛ ومن الدلالات المضمرة في تلك الرؤية الاختلافاتُ البليغة في صور/رسمات متكررة يراها الناس متشابهة وما هي كذلك عند مبدعيها وغيرهم من الفنانين وعشّاق الفن الأصيلين على حدّ سواء.

كانت فرصة نادرة لم أتبيّن قيمتها تماماً حينذاك، قبل نحو عشر سنوات، عندما احتضن متحفُ الفن (الحديث على ما أعتقد) بفِييَنّا معرضاً لفنّان شرق آسيوي يضم لوحاته الذاتية التي أبدعتها ريشته، ولعلي لست مخطئاً – برغم ذاكرتي المتأرجحة باستمرار – إذا أشرت إلى أن معظم/كل تلك الرسمات الذاتية كان باللون الأسود (أو الرصاصي) وظلاله. وفي ظلال المزحة الساذجة عن تشابه أفراد الشعوب من المنطقة التي ينتمي إليها الفنان، ظننت أول الأمر أن اللوحات لأناس شتّى، ولكن بالتدقيق تبيّن أنها لنفس الرجل/الوجه، وزاد في صعوبة الأمر أن الرجل كان أصلع، وهو يرتدي في الغالب نفس الثياب، ما يعني أن تبيُّن الاختلاف/الإبداع في كل لوحة كان بالفعل مهمة معقّدة لواحد مثلي لم يكن حينها منكبّاً بقدر كبير من الانتباه على تلك الناحية شديدة الخصوصية من الفن، وهو لم يقصد أساساً ذلك المتحف الشهير من أجل غرض كهذا.

الآن أفهم ذلك الفنان على نحو أفضل، غير أنني لا أزال أجادل في أن صوري الذاتية – بصرف البصر عن طبيعتها الفنية - تحتوي على قدر كبير من الاختلافات قياساً بلوحات ذلك الفنان؛ ولكن مهلاً، هل تلك بالفعل مزيّة فنيّة تحسب لي؟ لا على الأرجح، فكما ألمحنا من قبل كثيراً ما تبدو براعة الفن في اكتناه المختلف ضمن ما يراه الناس واحداً أو متشابهاً.

بدأتْ فكرة صوري الذاتية تأخذ أبعاداً جادّة عندما جاء - في غضون التعاقد على نشر كتاب باللغة الإنجليزية - طلبٌ ضمن حملة الترويج المصاحبة لنشر الكتاب: تجهيز مجموعة من الصور الخاصة لعرضها في وسائل ومنصات الإعلام/الإعلان المختلفة.

وجدتُ في ذلك الطلب مسوّغاً رسمياً رائعاً لرغبتي المحمومة أصلاً في التقاط الصور عموماً وأيضاً حمل الآخرين على تصويري بصفة خاصة. كان ذلك المسوّغ موجّهاً لعناية الأعزاء من حولي، فأنا لم أكن بحاجة إلى تبرير دوافع تبدو كما لو كانت فطرية بالنسبة لي؛ ولكن سرعان ما انتهت الحملة وانتفى مبرّر الخفة المضاعفة التي أبديتها خلالها للإكثار من صوري الذاتية. غير أني لم أيأس ولم أتراجع، بل استمررت في صنيعي بذات الوتيرة تحت ذريعة "الجاهزية" لأية حملات ترويجية مفاجئة.

الحجة الأبلغ في تبرير ذلك الاهتمام بـ/الإصرار على التقاط صور متعددة - إذا كانت صورة واحدة تفي بالغرض - تأتي في الواقع على شكل سؤال مضاد: لماذا صورة واحدة إذا كان من الممكن التقاط العديد من الصور المختلفة التي تفي بالغرض على نحو أفضل؟

الإجابة على السؤال المضاد أعلاه جاهزة لدى أنصار المدارس الصحفية الكلاسيكية، ومؤداها أن الصورة الواحدة أبعث على الرسوخ في أذهان القرّاء ومن ثم ترسيخ صورة الكاتب (المادية والمعنوية على حدّ سواء) في أذهان ووجدان جماهيره.

وبصرف البصر عن الردّ المقابل بدوره من روّاد الصحافة الرقمية على إجابة أنصار الصحافة الكلاسيكية، ومؤدّاه أن الصورة الواحدة للكاتب في عالم اليوم - بالغ السرعة والتجدّد - مسألة باعثة لضجر الجماهير لا ريب؛ بصرف البصر عن ذلك الردّ المنطقي أقول معترفاً في مزيج من الاعتزاز والمرح بأن دافعي من وراء صوري الذاتية المتلاحقة لا يتعدّى النشوة الخالصة لالتقاط تلك الصور والعمل عليها من خلال البرامج الإلكترونية التي تعين على تحسين الصورة لتبدو أفضل من الحقيقة، أو ربما تعين على إنشاء حقائق موازية نحب أن نصنعها ونحن ننتزع من التجاعيد شبابَنا الذي غاب عن الآخرين. أليس في ذلك معنى من معاني المبالغة في الفن، أو – للدقة – دلالة على رهافة القدرة على التقاط غير العادي فيما يراه الآخرون طبيعيّاً؟

للتواصل مع الكاتب:

[email protected]