محمد فياض يكتب: الحشاشين بين الدراما والتاريخ

كمؤرخ لا يمكنني أن أخفي إنبهاري وفخري بعمل ملحمي ضخم بلهجة مصرية مثل مسلسل الحشاشين، ربما يكون هذا المدخل بابا لتلقي السهام المسمومة التي تفوق سهام الحشاشين من مجموعة من المتربصين بأي نجاح مثل هذا النجاح الكاسح الذي حققه المسلسل، سيقولون أن المسلسل مليء بالأخطاء التاريخية، وأن لجهته المصرية أفرغته من مضمونه، وأن الأحداث والأشخاص لم تظهر بالشكل الدقيق وأن الفرصة لو كانت توفرت مبكراً لكان تم إجهاض ووأد هذا العمل الملحمي العظيم.

لن أندرج في إشكالية تحدث عنها الكافة بأن هناك فرق بين الحبكة الدرامية والعمل التاريخي، وأننا لسنا بمثابة إنتاج فيلم وثائقي يؤرخ للحشاشين، فقد كتبت أنا وغيري مجلدات تاريخية تناولت هذا الموضوع، وأشرفت على رسائل علمية وناقشت رسائل أخرى تناولت أدق تفاصيله، أشرفت على رسالة دارت كلها في نقطة واحدة تتعلق بمسألة خلافة نزار وظهور النزارية إلى غير ذلك من الأعمال الأكاديمية، هنا تكون مهمتي أن أدقق كل حدث وكل تاريخ وكل شخصية وكل معلومة تدقيقاً يتماشي من المنتج التاريخي الأكاديمي الرصين وهو ما لا يهم المشاهد العادي ولا القارىء العادي، ولكن ما قدمه المسلسل كان أكثر رحابة وأوسع أفقاً وأسرع وصولاً وأشد تأثيراً مما قد أقدمه أنا كأكاديمي متخصص.

نرشح لك:زارها حسن الصباح في "الحشاشين".. أبرز المعلومات عن مدينة سمرقند

كمؤرخ يدرك ماهية الصنعة التاريخية وكواليسها أؤمن تمام الإيمان أن النص التاريخي في حد ذاته هو فعل درامي، فلا وجود لحقيقة تاريخية مطلقة، فهو منتج بشري كتبه إما منتصر، أو محب، أو كاره، أو منبهر، أو موتور، أو عدو، وبلغة أحد أبرز مؤرخي الدولة البويهية عندما سُأل عما كتبه قال "أباطيل ألفقها وأكاذيب أنمقها" وبالتالي فإن النص في بنيانه العام هو نص غير موضوعي إلا قليلاً وهنا تكمن مهمة المؤرخ الحقيقي.

لقد نجح المسلسل في تأدية مهام كبرى، فقد ذكر المشاهدين كباراً وصغاراً أن هناك علم منسي إسمه علم التاريخ به من الكنوز والأسرار ما يخلب اللباب وما يمكن التسلح به في الواقع والمستقبل ، وعندما تشاهد فربما تقتنع بكل الأحداث أو بعضها أو لا تقتنع فيكون الفيصل هو أن تبحث وتقرأ وتتوسع وهو غرض نبيل وغاية كبرى أرى أن المسلسل في حلقاته الأولى كان محركاً ودافعاً كبيراً للبحث والقراءة والتقصي، نبه المسلسل المشاهدين للحذر من معسولي الكلام غاسلي الأدمغة بإسم الدين كاشفاً لهم الأغراض الخفية، نجح المسلسل في الوقوف على تفاصيل تاريخية دقيقة لا تتوفر لقارىء عادي وهو ما يوضح أيضاً أن اللجنة التي راجعت العمل كانت على وعي كبير واحترافية، نقل المسلسل روح العصر الذي أعرفه تمام المعرفة وأشم رائحته كما تعرفت عليها وتذوقتها من خلال مئات المصادر التاريخية التي أعرفها عن ظهر قلب، نجح أبطال العمل في تقديم صورة شبه متقاربة فأبدع أبطاله، كنت دائماً ما أترقب كيف سيظهر النجم كريم عبد العزيز في هذا التحدي وهذه المغامرة الكبرى فأقنعني وهزم كل معارفي التاريخية، ظهر النجم فتحي عبد الوهاب كنظام الملك نفسه قلباً وقالباً فكراً وروحاً وكأن روح نظام الملك تلبسته، وغيرهم من نجوم العمل، أما عن الحكايات التي تحتمل التأويل كصداقة الحسن الصباح بعمر الخيام بنظام الملك فرغم أن هذه النقطة محل تشكيك وإشكال إلا أن المؤلف والمخرج لم يأت بها من عنده بل هي لقطة درامية أيضاً قدمتها مصادر تاريخية أخرى، لذا فلا يمكننا أن نستنكر إبداع المؤلف والمخرج في خلق عوالمه الدرامية كما يحلوا له طالما لم يقدم منتجه الفني على أنه فيلم وثائقي ، والأمثلة كثيرة فلا يوجد عيسى العوام في الناصر صلاح الدين ، ولا توجد حكاية جهاد ومحمود بشكلها الرومانسي في وإسلاماه، ولم يكن هارون الرشيد زير نساء ولا كان الخليفة الأمين شارباً للخمر فهي دراما فنية كانت أقل إفتعالاً من دراما المؤرخين.

أما عن الحكاية التاريخية الخاصة بالحشاشين يمكن إيجازها في مشهد يجمع بين الدراما والتاريخ تفاصيله:

الحسن بن الصباح ينجح فى إقامة تنظيم خطير وهو تنظيم الحشاشين فى أواخر القرن الحادى عشر الميلادى الخامس الهجرى ، متخذاً من قلعة "آلموت" عاصمة لهذا التنظيم ، وقد عملت هذه الحركة على هز العروش والجيوش منطلقة من الدعوة الدينية ومتخذة الشعار الدينى نقطة ارتكاز لها، فكانت آداة للقتل والرعب والتدمير صانعة حالة من الإرهاب والفزع فى العالم الإسلامي.

لقد قام الحسن الصباح بوضع تنظيم كان هدفه الإرهاب والإرهاب فقط، فأسس نظام خاص قوامه السرية والطاعة العمياء، مقسماً جماعته لمراتب ودرجات كانت على النحو التالي:

مرتبة شيخ الجبل: هو زعيم التنظيم والمرشد الأعلى، كان يلقب بلقب مولانا أو سيدنا، وقد بلغ أعضاء التنظيم فى طاعته مبلغاً متطرفاً حتى أن الرحالة ابن جبير قد عبر عن ذلك قائلاً "فكان شيخ الجبل يأمر أحدهم بالتردى من شاهق الجبل فيتردى ويستعجل فى مرضاته"، أما المرتبة الثانية من مراتب الدعوة فكانت لكبار الدعاة، والمرتبة الثالثة هى مرتبة الدعاة، والمرتبة الرابعة مرتبة الرفاق، أما المرتبة الخامسة وهى الأهم هى مرتبة الفداوية.

وفي الحقيقة فإن مرتبة الفداوية كانت المرتبة الأهم والأخطر، حيث عدت القوة الضاربة التي حققت رغبات شيخ الجبل، لا مجال للسؤال أو النقاش فقط السمع والطاعة، كما كانت هناك شروط أساسية في اختيار الفداوية فيجب ألا يتعمق عضو الفداوية في أصول الدين والمذهب، كما كان يتم إختيار من تتوفر لديهم الشجاعة والقوة بعد تدريبهم على حمل السلاح والتدريب على الفروسية، بالإضافة إلى ذلك يتم تسليحهم بخناجر مسمومة لإستخدامها فى مهامهم الإغتيالية القذرة، فضلاً عن تكليفهم بالسفر لأى مكان لتنفيذ أى عملية إغتيال تُطلب منهم حتى لو علموا أن العملية إنتحارية وأن نجاحها يعنى نهاية لحياتهم، كمسوخ بشرية عملاقة بلا عقل وبلا إرادة.

على أية حال فقد كان الحسن الصباح يستخدم وسائل سحرية للسيطرة على أفئدة وعقول هؤلاء المسلوبين نفسياً، وقد وصل الحال بأن عبرت بعض المصادر التاريخية أن الحسن الصباح قد قام بصنع صورة مصغرة للجنة من حدائق وقصور وبساتين وقنوات من الماء والعسل واللبن والفتيات العذارى والغلمان والظرفاء والأروقة الذهبية في وصف أسطورى بديع، وقد استمرت هذه المصادر فى الحديث عن كيفية السيطرة الكاملة على الفداوية، فكان شيخ الجبل يدعوا بعض الفداوية على مائدة غناء من الطعام، ثم يبدأ في إعطائهم نبات الحشيش حتى إذا سرى مفعول الخدر فى أجسادهم أمر بحملهم الى الجنة لقضاء عدة أيام ليتنعموا فيها ثم يعاد تخديرهم مرة أخرى ليجلسوا فى نفس المكان الذى كانوا يجلسون فيه أمام شيخ الجبل وليسألهم أين كنتم؟ وتكون الإجابة المفعمة بالإنبهار بأنهم كانوا فى الجنة ، وهنا يكون الوعد المغري قائلاً "إذا كرستم أنفسكم لطاعة أوامري سوف تجدون السعادة في انتظاركم وسوف يحملكم ملائكتي إلى الجنة للتمتع بها " وأمام هذا يكون الموت رخيصاً والإغتيال سهلاً والإرهاب محبباً لأجل عين الجنة ونعيمها.

وفي الحقيقة فإن العديد من الباحثين والمؤرخين رفضوا القول بوجود هذه الجنة الأسطورية والإستعاضة عن ذلك بالقول أنها جنة معنوية ذهنية تخلقت من قدرة الحسن الصباح على غسيل مخ هذه العناصر الفقيرة فكرياً والضحلة ذهنياً ومعرفته بأصول علم النفس في تلك المرحلة، وأن هذه المقدرة على سحر لباب هؤلاء الجهلاء جعلتهم أداة لينة في يد ابن الصباح، يضرب بها من يشاء ويبطش بها بمن يشاء، وهو ما يفسر وصايا الحسن الصباح بعدم القاء مبادىء الدعوة في "بيت به سراج منير" أى عدم نشر مبادىء الدعوة لأى فرد له علاقة بالعلم والفكر.

ومهما يكن من أمر فقد برع هؤلاء حسب وصايا ابن الصباح فى التنكر وابتداع وسائل للإغتيال، كما كان ابن الصباح يعتمد وسائل أخرى بعناصر أخرى مثل توجيه أسئلة ملغمة لبعض العلماء المشهورين فى المساجد وإذا عجزوا عن الرد يتحول إهتمام الموجودين فى المسجد اليهم وكانت هذه إحدى وسائل الإستقطاب، فضلاً عن زرع بعض عناصرهم فى المساجد التى استخدموها لنشر سمومهم الفكرية مستغلين الإستعداد الإيمانى والضبابية الفكرية لبعض رواد المسجد ، فيقع المُغرر به فى الفخ وتبدأ رحلته مع عالم الإرهاب.

وفي الأخير فربما يكون وجع المسلسل هو مدى التشابه الكبير بين الحشاشين وجماعات أخرى غاية فى التطابق من حيث الأهداف والمبادىء والعناصر والإستقطاب والجنة المعنوية ثم سحق هذه العناصر المؤمنة بأفكار وهمية مقابل المكاسب الجمة التى جناها هؤلاء الزعماء على رقاب الجميع.