عمرو منير دهب يكتب: حواء والتفاصيل.. الفصل العاشر من كتاب "جينات أنثويّة"

أبدينا إعجابنا بهنّ خلال مراقبتنا أداءهنّ الباهر؛ مجموعة من السيدات في منتصف العمر يؤدّين عملهن بصبر واتقان وسعادة، المكان جمهورية التشيك، الزمان بدايات القرن الحادي والعشرين؛ كانت مهمة تقليدية لفحص بعض الأجهزة الكهربائية والإلكترونية في مصنع عالمي عابر للقارات مقرّه البلد المتحرّر حديثاً – بصورة نسبية – من ربقة الاتحاد السوفيتي إلى درجة أن التحدّث بالإنجليزية كان مسألة شاقة جداً حتى على نفرٍ من أرفع المهندسين مكانةً بالمصنع، لا سيما أولئك الذين تخطّت أعمارهم الثلاثين، وهم الأجيال التي نشأت وتلقّت تعليمها كاملاً في منظومة القبضة الحديدية الصارمة للنظام الاشتراكي شديد الانغلاق.

بعدها ببضعة أعوام، وفي إحدى البلدات القريبة من ميلانو الإيطالية، أعدنا إبداء الإعجاب نفسه بمجموعة من سيدات في منتصف العمر وفتيات في ريعان الشباب للسبب ذاته: أدائهن في صبر واتقان وسعادة عملَهنّ المتمثّل في تمديد وتوصيل شبكة معقدة من الأسلاك الكهربائية داخل لوحات/حاويات تضمّ العديد من المعدات الكهربائية والأجهزة الإلكترونية الدقيقة. اغتبط المهندس الإيطالي المسؤول بثنائنا على عمل السيدات والفتيات الدقيق؛ وزاد مهندسٌ أسترالي مشرف على رحلة العمل بالقول إنه ضمن مهمة سابقة له أولى العملَ نفسه بعضَ أمهر فنّيّي الكهرباء من الرجال فكانوا يضجرون ويشرعون في ارتكاب العديد من الأخطاء المتعلقة بمواءمة الأرقام المسلسلة كما ينبغي على الطرفين: نهايات الأسلاك الكهربائية وأطراف التثبيت على اللوحات/الحاويات؛ وعندما أعاد تكليف مجموعة من السيدات والفتيات بالعمل - الذي يحتاج إلى صبر وتركيز دقيق على التفاصيل - أنجزنه دون أية أخطاء وهن يتجاذبن أطراف الأحاديث الضاحكة كما لو كنّ يجلسن على طاولة مطبخ ينظّفن ويجهّزن قطع الخضار وحبّات الأرز ومكعّبات اللحم لإعداد وليمة لذيذة لمجموعة من الضيوف في مناسبة عائلية بهيجة.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: الأفضل للرجل أن يمشي على صراط مستقيم.. الفصل التاسع من كتاب "جينات أنثويّة"

في السياق نفسه - المرتبط بعنوان المقال - قرأتُ منتصف التسعينيات الماضية للصحفي المصري ذائع الصيت أنيس منصور في أحد كتبه أن البعض يذكر عن ولع المرأة بالتفاصيل أنها – على وجه العموم - تستطيع أن تُخبر المحققين بهوية العلامة التجارية وبلد الصنع لسكين حاول لص أخرق نحرها به خلال محاولة سطو فاشلة.

هل المرأة بالفعل أكثر ولعاً بالتفاصيل ومهارةً في التعامل معها من الرجل؟ لا أعتقد أن جدالاً كبيراً يمكن أن ينشأ في معرض الردّ على السؤال، فـ"نعم" هي الإجابة الراجحة، وإن يكن لا مناص من الجدال حول الأسباب الداعية إلى اهتمام حواء بالتفاصيل، وهو جدال لا غضاضة منه على كل حال، بل هو مما ينهض الكثيرُ من الدراسات الأكاديمية الثرية والكتابات الإبداعية الملهمة على أساسه.

تقول آن ماري سلوتر Anne-Marie Slaughter المحامية الدولية الأمريكية وأوّل امرأة تشغل منصب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية، وذلك في مقال لها، نقلاً عن مجلة National Geographic (ناشيونال جيوغرافيك العربية عدد يناير 2017)، تقول: "وقد وجدت بالتجربة الشخصية أن الفوارق الأحيائية بين الجنسين هي فوارق حقيقية. فبصفتي أمّاً لولدين ذكرين، وعمّة لخمس بنات، فإنّي أتفق مع الفكرة القائلة إن بعض أنماط السلوك تبدو حقاً متأصّلة ونابعة من الذات. لكن الخصائص الأحيائية ليست قدراً محتوماً، لا على الرجال ولا على النساء".

أمّا كاثرين زَكَرْمَن Catherine Zuckerman فتقول في مقال لها في العدد ذاته من المجلة: "لكن ربط جنس المرء بأحد هذين اللونين (الوردي والأزرق) لم يكن إلّا حديثاً، وذلك وفق ما أفادت به جو باوليتي، وهي أستاذة الدراسات الأمريكية لدى جامعة ماريلاند. ففي القرن التاسع عشر، كانت ألوان الباستيل مرغوبة ورائجة في معظم أنحاء أوروبا والولايات المتحدة، وكان يُتزيّن بها "لإظهار بشرة المرء أكثر جمالاً، وليس للدلالة على جنسه" على حدّ قول الأستاذة. وتضيف باوليتي أن التمييز بين الجنسين في الألوان بدأ بالبروز في المرحلة الأولى من القرن العشرين، ومع حلول عام 1940، كان قد ترسّخ حال اللونين الوردي والأزرق بوصفهما لونين مرتبطين بشدّة بهذا الجنس أو ذاك، وما زال الحال كذلك إلى يومنا هذا".

تواصل زَكَرْمَن: "تقول باوليتي إن الولايات المتحدة ساهمت إلى حد كبير في ظاهرة "الوردي للبنات والأزرق للبنين"؛ وقد تعززت الظاهرة بمجموعة الألوان المتعارف عليها للدمية باربي، وبأفلام الرجال الخارقين، وبغيرها من ركائز الطفولة الأمريكية. ولهذه الألوان الأثر الثقافي العميق نفسه الذي تتمتع به "الأفكار التقليدية الخاصة بممارسة الجنس، والنوع الجنسي، والعلاقات الجنسية الإنسانية" على حدّ قولها".

تؤكّد آن ماري سلوتر إذن أن الفوارق الأحيائية بين الجنسين هي فوارق حقيقية...لكنها ليست قدراً محتوماً على أيٍّ من الجنسين، وتوضّح كاثرين زَكَرْمَن في المقابل أن التمييز بين الجنسين يكون أحياناً مصطنعاً عن سبق إصرار واضح (بتأثير آلة اقتصادية أو إعلامية أو حتى سياسية، إلى حدّ أن تنطلي الفكرة المصطنعة على الجماهير بوصفها حقيقة بيولوجية أزلية).

مع صفة دقيقة وعميقة وشديدة التشعّب كاهتمام الإناث بالتفاصيل، يصعب القول بأنها فكرة مصطنعة أو حتى ناشئة تلقائياً بتأثير ظروف محيطة بالإناث في كل بقاع العالم وعلى امتداد تاريخه، وذلك إذا جاز الاتفاق ضمناً على أن تلك الصفة بالفعل لصيقة بالإناث – على اختلاف أعمارهن – أكثر مما هي مرتبطة بالذكور.

ولكن، مهما تكن الأسباب والتفاسير، لا يبدو الاهتمام بالتفاصيل مجرّد صفة تُرسِّخ الصورة الرائجة عن الإناث بوصفهن فضوليّات. على المدى الأبعد والأعمق - على صعيد تقدير تلك الميزة الأنثوية الفطرية - تبدو التفاصيل كما لو كانت سلاحاً تستخدمه حوّاء لمراقبة صنوها اللدود آدم وتعقّب صولاته وجولاته على كل نطاق.

وحيث أن الاهتمام بالتفاصيل ليس حكراً على حواء الراشدة و"المرتبطة" فحسب، بل "غريزة أنثوية" تُولد بها حوّاء كما اتّفقنا افتراضاً، فإن قيمة التفاصيل الأكثر بلاغة في حياة حوّاء تتجسّد في كونها إحدى خصائصها/امتيازاتها التي تُشهرها في وجه آدم وتتيه بها عليه عندما تسوّل له نفسه أن يدّعي تفوّقاً نوعياً/جنسياً عليها من أي قبيل؛ وإن يكن الأرجح أن حوّاء أكثر نضجاً ودهاءً من أن تبالغ في الإفصاح عن هذا الامتياز الفطري، فهي تحتفظ به في صمت لمراقبة لفتات وسكنات آدم ومحاسبته من ثم من حيث يحتسب ولا يحتسب.