بعد عودة "حنظلة".. ناجي العلي "حي" في كل الأزمنة

منذ بدء عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي، ومع زيادة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والذي أسفر عن استشهاد الكثير من الأهالي المدنيين بالقطاع، انتشرت صور للشخصية الكاريكاتيرية "حنظلة"، خاصة بعد أن اشتد العدوان شراسة وقُصف مستشفى المعمداني يوم الثلاثاء 17 أكتوبر.

ثار رواد مواقع التواصل الاجتماعي ونشروا صورًا مختلفة لـ"حنظلة" كنوع من أنواع الاعتراض والحداد عما يحدث، ولكن من لا يعرفه يستغرب كثيرا من وجود أمامهم شخصية كاريكاتيرية لطفل نحيل، رث الثياب، حافي القدمين، بشعر حاد مثل القنفذ يضع يديه خلف ظهره.




"حنظلة" رسمة أم شخصية؟!

كـ صحفية جيل جديد بالتأكيد مررت على شخصية "حنظلة"، ولكن مع انتشاره بطريقة أكبر فكرت في أن أتعمق فيه أكثر وأقوم بعمل إنفو معلومات عنه وأريد التركيز على كلمة شخصية، لأنني وفقا لمعلوماتي كنت أرى أنه رسمة حتى وإن استمرت لسنوات فهي في النهاية رسم كاريكاتيري وهو ما أدى إلى دخولي في جدال وعناد كبير مع رئيس تحريري والذي كنت أحاول مرارا اقناعه بأنه "رسمة" وهو مصرا على أنها شخصية كاملة وهو ما جعلني أعيد النظر مرة أخرى في الموضوع، حيث إنها إذا كانت مجرد رسمة فسيتم رسمها مرة واحدة فقط، ولكن فنان الكاريكاتير الفلسطيني الراحل ناجي العلي لم يفعل ذلك، وهو ما سأحاول توضيحه في السطور المقبلة.


بداية ظهور "حنظلة"

"عزيزي القارئ اسمحلي أقدملك نفسي اسمي حنظلة، اسم أبوي مش ضروري، أمي اسمها نكبة، ولدت في 5 حزيران1967نمرة رجلي ما بعرف لإني دايما حافي، جنسيتي، أنا مش فلسطيني، مش كويتي، مش لبناني، مش مصري، محسوبك إنسان عربي وبس، التقيت صدفة بالرسام ناجي، كاره شغله لأنه مش عارف يرسم، وشرحلي السبب، كل ما بيرسم بيحتج زعيم، أو وزارة، أو سفارة، وقالي ناوي يشوف شغلة غير هاالشغلة، بعد ما عرفته بنفسي قلت له إني مستعد أرسم عنه كاريكاتير كل يوم وفهمته إني ما بخاف من حدا غير الله".



بهذه الكلمات عرف "حنظلة" نفسه للقراء في يوم 13 يوليو عام 1969 بجريدة السياسة الكويتية، وكان ينظر للقارئ، ولكن سرعان ما أدار "حنظلة" ظهره وعقد يديه خلف ظهره عام 1973 اعتراضا منه على الأحدث في العالم وخاصة فلسطين.

كـ شخص يراه لأول مرة ما يلفت نظرك هو الاسم "حنظلة"، بالتأكيد عندما تقرر تسمية أحد أبنائك تختار اسم جديد وجميل وينال إعجاب الناس، ولكن لم يفعل "ناجي" ذلك، فيُعرف ناجي الحنظل في إحدى لقاءاته الإعلامية ويقول إنه مرارة الحقيقة، حيث إن الحنظل هو نبات شوكي مر.

ولد "حنظلة" في صحافة الكويت كتعبير عن ذات "ناجي"، حيث كان يؤرقه كثيرا أن تغيره رفاهيات الحياة بالكويت وينسى القضية الفلسطينية وهمها أو ينسى هموم الإنسانية عموما فقرر خلق هذه الشخصية حتى يكون بمثابة تذكرة له بمبادئه التي كان لا يريد التخلي عنها.


نرشح لك: كابتن أيلا ومجندات تيك توك.. خطة إسرائيل لخداع العالم!


تقاطع حياة حنظلة وناجي

"ولدت حيث ولد المسيح، بين طبرية والناصرة بقرية الشجرة بالجليل الأعلى، أخرجونا من هناك وعمري 10 سنوات عام 1948، أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكر بقية عمري، أعرف العشب والحجر والظل والنور هناك، لا تزال صورها ثابتة في محجر العين، كأنها حفرت حفرا".

"أرسم لا أكتب أحجبة، لا أحرق البخور، ولكنني فقط أرسم، إذا قيل أن ريشتي تشبه مبدع جراح أكون قد حققت ما حلمت طويلا بتحقيقه، لست محايدًا، أنا منحاز لمن هم تحت، لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى، لمن يخرجون من حواري الخرطوم يمزقون بأيديهم سلاسلهم، لمن يقرأون كتاب الوطن بالمخيمات، أنا ناجي العلي رسام الكاريكاتير العربي من فلسطين".


هكذا يعرف ناجي نفسه في أغلب الأفلام الوثائقية التي قُدمت عنه، وفي فيلمه السينمائي الذي مُنع من العرض وسنحكي عن أسبابه فيما بعد، ولكن تتقاطع حياة حنظلة وناجي وتتشابه كثيرا حيث قرر أن يظل حنظلة منذ يوم ظهوره للقراء في سن العاشرة ولا يتأثر بعوامل الزمن، ويظهر تأثره بحياته التي عاشها في مخيم عين الحلوة بجنوب لبنان بعد أن أخرجه الاحتلال هو وعائلته من فلسطين وقت نكبة فلسطين 1948.

أولاد قضية الأرض مصيرهم واحد

ظل ناجي يرسم على جدران المخيم وتعرض للتنكيل كثيرا بسبب ذلك، ولكن تقاطع طريقه مع طريق رجل القضية والذي تشابه مصير نهايتهما الصحفي غسان كنفاني، ليرى رسوماته ويقرر أن ينشر له 3 رسومات بمجلة الحرية في العدد الـ 88 يوم 25 سبتمبر 1961.



كان "العلي" مهموما بقضية بلده أكثر من اهتمامه بأي شيء آخر، ليس ذلك فحسب ولكن كان يرسم عن كل شخص مهزوم ومنكسر في العالم وخاصة قضايا العالم العربي، واعتمد حنظلة كإمضاء على رسمه بعد عام 1973، وكرقيب له ودليلا واضحا منه على أنه شاهدا على كل ما يحدث، يرى كل الجرائم والانتهاكات معترضا ولكن غير مستسلم.




اغتيال كاريكاتير خوفا من الحقيقة

ناجي الذي عاش حياته ترحالا بعد أن ترك مخيم عين الحلوة الذي عاش فيه 20 عاما، واتجه إلى الكويت وبدء عمله في مجلة الطليعة عام 1963، وبعد توقفها اتجه لجريدة السياسة الكويتية عام 1974، وصحيفة السفير اللبنانية حتى 1978 والوطن الكويتية، وأخيرا القبس الكويتي، ظل يرسم ناجي في القبس الكويتية حتى جاء له الكثير من التهديدات وتم نقله إلى القبس الدولية في لندن.

في يوم 22 يوليو 1987 حمل ناجي أوراقه المليئة برسوماته التي يوقع عليها حنظلة متجها إلى مقر عمله بلندن ولم يمهله القدر ذلك، حتى اعترضه شخص وقام بإطلاق رصاصة في وجهه بكاتم صوت أدخلته في غيبوبة لمدة شهر و7 أيام حتى توفى في 29 أغسطس من العام ذاته.


تقييد مجهول وفتح التحقيق بعد 30 عاما

وفقا لتصريحات سابقة لـ ناجي فإن كل القوى كانت ضاغطة عليه، مؤكدا على عدم انتمائه لأي قوة سياسية أو غيرها، فإنه حرا لا يلتزم باعتبارات معيشية ولا سياسية ويمثل السواد الأعظم من الناس ويركز على معاناتهم فقط، كل ذلك يجعل إصبع الاتهام تتجه لكل من كان يعبر عنه ناجي ويعترض على سياستهم.



كعادته لم يكف عن الحديث والتعبير عن اعتراضه حتى وهو في لندن فبحسب تصريحات لرئيس تحرير القبس الأسبق محمد جاسم الصقر، إن ناجي تم إبعاده من الكويت وتم تخييره بالذهاب إلى أي دولة عربية أخرى ولكن ناجي اعترض على ذلك مؤكدا على أنه سيتم اغتياله لذلك قرر الذهاب إلى مكتب القبس بلندن عام 1986، وكان ذلك عقابا على جريدة القبس حيث تم ابعاد 26 صحفيا آخرون معه.



كان يرسل "ناجي" ثلاث كاريكاتيرات لرئيس التحرير ويختار واحدا منهم فقط، وقبل اغتياله اختار رئيس التحرير كاريكاتير باطنه يهاجم فيه رئيس فلسطين السابق ياسر عرفات دون أن يعلم ذلك، مما جعل الكثير من الأشخاص يتواصلوا معه لمنع ناجي من الحديث في هذه المواضيع.




لم يكن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات فقط الوحيد المشتبه به في قضية القتل فهناك الكثير من الأيدي التي ظل الاشتباه بهم من بينهم الموساد الإسرائيلي بكل تأكيد ولكن ورغم مرور 36 عاما حتى لحظة كتابة ونشر هذا الموضوع إلا أنه تم غلق القضية ضد مجهول وفتحت السلطات البريطانية التحقيق فيها مرة أخرى بعد مرور 30 عاما على اغتياله ولكن بالتأكيد دون جدوى.



محاولة منع صوت "ناجي" بعد وفاته

لم يتركه "عرفات" حتى بعد وفاته، حيث جاء إلى مصر خصيصا لمنع عرض الفيلم الذي يحمل اسمه من افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 1992 وهو سنة إنتاج الفيلم.

فالفيلم الذي من بطولة نور الشريف وإخراج عاطف الطيب، وتأليف بشير الديك، والذي قمت بمشاهدته أثناء كتابة هذا الموضوع لم أجد به شيئا ليتم مقابلته بالهجوم الشرس الذي تم على "نور" أو أن يتم منع عرضه، بل بالعكس لأي شخص لا يعرف قصة ناجي لن يستطيع فهم الفيلم وأحداثه والتي تركز على بداية اغتياله وفترة دخوله الغيبوبة بعودة للخلف عن ذكرياته وأحلامه وحياته ورغم ذلك تم عرض الفيلم في موعده المحدد.




أعتقد أن كل ما حدث ويحدث هو ما كان يسعى إليه "العلي" طوال فترة حياته فلم يكن تأثير "حنظلة" مقتصرا على مواقع التواصل الاجتماعي فقط، بل امتد ليشمل حتى كتابة هذا الموضوع 4 أندية رياضية، حيث أصبح نوع من أنواع الاحتفال بعد احراز الأهداف الرياضية واعتراضا على أحداث فلسطين.







تسقط الأجساد لا الفكرة

أصررت أن أجعل نهاية الموضوع اقتباسا لجملة قالها "كنفاني" وأؤكد عليها، وهو ما واضح جليًا من أن "حنظلة" ما زال بيننا رغم مرور كل هذه السنوات، أعتقد أن "ناجي" فخور بجيل أحفاده ويرانا من مكان عالٍ وجميل وينتظرنا أن نحرر القدس أيضا وإذا لم نستطع فعلى الأقل هو واثق من أننا سنظل نتحدث عنها كثيرا.

أرقد في سلام يا ناجي فأحفادك لن يتركوا حنظلة وحيدا، ولكن عندما تم سؤالك عن الوقت الذي سنرى فيه وجه حنظلة مرة أخرى أجبت: "عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، ويسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته"، وبالتأكيد عندما نسترد القدس، سنحاول يا ناجي ولكن وقتها من سيرينا وجه حنظلة!