وهْم الشجاعة .. الفصل التاسع والعشرون من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

الشجاعة المطلقة مستحيلة، فمثل أية سمة أخرى ترتبط الشجاعةُ بالعديد من المؤثرات التي تشكّلها والقيودِ التي تحدّ من انطلاقها الحر/انفلاتها. تبدو الشجاعة كما لو كانت خليطاً من سمة نفسية فطرية وقيمة أخلاقية تختلف باختلاف طبيعة كل فرد وتتجلّى في الأفراد والجماعات بحسب الموقف ذي صلة انطلاقاً من تأثير عميق لقيمة أخلاقية أخرى – كالكرامة أو الذود عن العرض أو الاعتداد بالمبدأ/العقيدة - لدى الفرد أو الجماعة في أي زمان ومكان.

عند تأمّل ما يمكن أن يؤثّر في الشجاعة فيحدّ من سطوة انطلاقها وعظمة تجلياتها، ومدى تأثير تلك الحدود والقيود، يبدو الخوف كما لو كان سمة/فطرة شديدة التجذّر في النفس البشرية. فمهمة من يريد أن يخيف فرداً أو جماعة فيثنيها عن الإقدام على عمل جسور أيسر من مهمةٍ مقابلة لمن يريد أن يشجّع فرداً أو جماعة متردّدة تجاه الإقدام على عمل جسور مماثل، وذلك بافتراض أن من أوكِلتْ إليه المهمة على الطرفين يملك الأدوات التي تعينه على عمله في الحالين. بعبارات أكثر اقتضاباً ومباشرة، التخويف أيسر كثيراً من التشجيع (حمل طرف ما على الشجاعة) بافتراض إتاحة أنجع أدوات التخويف وأفضل أدوات التشجيع المادية والمعنوية للفريقين المتقابلين في مباراة الشجاعة ضد الجبن على أي صعيد.

الشجاعة حالة من الحماسة المستمرة، حالة من الحركة على أقلّ تقدير، مقابل الجبن الذي هو أقرب إلى السكون أو التراجع السلبي.. هكذا، يتبيّن أحد الأسباب التي تجعل متطلبات الشجاعة أصعب من متطلبات الخوف/الاستسلام. إلى ذلك، يبدو الخوف أكثر دهاءً في التماس المسوّغات والتحلّي بالثياب الأنيقة، فالجبن لا يظهر عارياً بل يرتدي ما يستر عورته من الثياب (باستعارة تعبير مماثل لبرتراند راسل حول الحقيقة العارية) وهي كثيرة: ثوب التعقّل، ثوب الحكمة، ثوب المصلحة، وهلمّ جرّا. وفي العادة، يبدو الخائف/المتراجع/المستسلم بارعاً في ستر خوفه/تراجعه/استسلامه برداء التضحية، تضحيته من أجل آخرين يخشى عليهم من عواقب شجاعته/اقتحامه/اندفاعه.

ما لا يخيف الشجاع - الذي يبدو مطلق الشجاعة أمام نفسه أو الآخرين – في موقف بعينه قد يخيفه ببساطة في موقف آخر يغيب خلاله الدافع الذي حمله على الصمود أول الأمر. هكذا، تبدو الشجاعة كما لو كانت شديدة الارتباط بالظروف المحيطة بمن اتخذ قرار الشجاعة أو انطلق إليها تلقائياً، وقد تكون تلك الظروف مؤثرات مباشرة ممن يحيطون بذلك "الشجاع" في لحظة اتخاذ قراره بالشجاعة أو بواعثَ نفسية عميقة التأثير رجوعاً إلى عوامل تنشئة تحثّ أحدهم على الاندفاع دون أن يفكّر مرتين أو حتى مرة واحدة.

في كتابه Discours sur l'origine et les fondements de l'inégalité parmi les hommes ، نقلاً عن الترجمة العربية لعادل زعيتر بعنوان "أصل التفاوت بين الناس"، نسخة مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة بالقاهرة سنة 2016، يقول جان جاك روسو: "ويزعم هوبز أن الإنسان جسور بحكم الطبيعة، وهو لا يحاول غير الهجوم والقتال، والعكس ما يراه فيلسوف مشهور آخر، وكذلك يؤكد كونبر لاند وبوفندروف كونه لا شيء أخوف من الإنسان في الحالة الطبيعية، فهو يرتجف ويستعد للفرار دائماً عند أقلّ صوت يقرعه وأقل حركة يشعر بها، وقد يكون هذا تجاه الأشياء التي لا يعرفها، ولا أشك مطلقاً في خوفه من جميع المناظر الجديدة التي تعرض له في كل مرة لا يستطيع أن يفرق فيها بين الخير والشر الطبيعيين اللذين يجب أن ينتظرهما منها، ولا أن يقابل بين قواه والأخطار التي تلاقيه، وهذه الأحوال نادرة في الحال الطبيعية، حيث يسير كل شيء بالغ النمطية، وحيث لا يكون وجه الأرض خاضعاً مطلقاً لتلك التحولات المفاجئة الدائمة التي توجبها هناك أهواء الشعوب المتحدة وتقلبها، ولكن بما أن الإنسان الوحشي يعيش متفرقاً بين الحيوانات ويجد نفسه باكراً في حال يقيس نفسه بها، فإنه لا يُعتم أن يقوم بهذه المقايسة، وهو إذ يحسُّ أنه يفوقها حيلةً أكثر من فوقِها إياه قوةً، فإنه يتعلّم ألّا يخشاها بعدُ، وضعوا دبّاً أو ذئباً أمام (إنسان) وحشي قوي نشيط جسور – كما عليه الجميع – مسلح بحجارة وهراوة جيدة، تروا كون الخطر متقابلاً على الأقل، وكون الحيوانات المفترسة، التي لا تحب مهاجمة بعضها بعضاً مطلقاً، قليلة الرغبة في مهاجمة الإنسان الذي تجده مفترساً مثلها".

تلك لمحة من رأي روسو، وبعض المفكرين متعارضي وجهات النظر، اقتطافاً عن كتاب مرجعي يرى فيه فيلسوف عصر التنوير الشهير أن التفاوت بين البشر مردّه إلى التقدم/التحضر الإنساني وأن حالة الإنسان الطبيعية/البدائية/الأولى هي التي تتجلى فيها المساواة بين الناس. مهما تكن وجهة النظر، اتفاقاً أو اختلافاً مع روسو بهذا القدر أو ذاك، وبمنأى من فكرة/موضوع المساواة أو التفاوت بين البشر، فإن الرقي/التحضّر قد رسّخ الخوف في السلوك الإنساني (ولا نقول في الطبيعة البشرية، تجاوزاً لخلاف ليس هنا محلّه) وأفاد منه أكثر مما رسّخ الشجاعة لا ريب. بتعبير آخر (وتجاوزاً للخلاف حول أيهما الأظهر تأثيراً: ما هو فطري أم ما هو مكتسب؟ وما هو الفطري مقابل المكتسب؟)، كان لا بدّ من إبراز جانب الخوف في الطبيعة البشرية والتفنّن في توجيهه والسيطرة من ثمّ على البشر في المجتمعات المتحضرة من خلاله.

ولكن ذلك لا يجب أن يمنح انطباعاً بأن المجتمعات الأقل تحضراً (المجتمعات البدوية وليست البدائية) هي مجتمعات لا يعرف أفرادها الخوف، فأي مجتمع يخضع لقيادة من أي قبيل لا بد أن يكون للخوف فيه وجود يسمح لقيادة ذلك المجتمع أن تقوم بدورها كما تريد وليس نزولاً على رغبة الأفراد حبّاً وكرامة من جانبهم في كل الأحوال. وإذا كان دور القيادة يبرز في حالات الخلاف أكثر من بروزه في حالات الوفاق، فإن ذلك الدور يتجلّى في قوة القيادة (التي لا تخلو من الحكمة) بحيث لا تسمح بنشوء الخلافات ابتداءً بقدر يُذكر وبحيث تكون قادرة دوماً على حسم الخلاف حال نشوئه، كل ذلك تخويفاً ابتداءً ثم ترغيباً بعدها بحسب ما يتوفر من أدوات وإمكانيات الترغيب.

تتضمن تجليات الشجاعة العظيمة على الأرجح قدراً من تغييب العقل/الوعي، فالتعقّل أدنى إلى أن يُفضي إلى ما يضمن السلامة من الخيارات، وأظهر الأمثلة على ذلك ما يمكن النظر إليه بوصفه عملية غسيل أدمغة للمحاربين تحملهم على الإلقاء بأنفسهم إلى الهلاك دفاعاً عن مبدأ بعينه في ذات الوقت الذي يندفع خلاله محاربون آخرون في الطرف المقابل إلى الهلاك دفاعاً عن مبدأ مناقض، وأحياناً عن تفسير مغاير/مناقض للمبدأ نفسه. هكذا، يذهب البعض إلى الفناء دون أن يكونوا على يقين بالضرورة من المجهول الذي ينتظرهم وإنما فقط استجابة لاستفزاز نفسي عميق/غسيل دماغ تحت أيٍّ من الذرائع وهم راضون فخورون لينعم آخرون بالبقاء في سلام وهناء.

تبدو الشجاعة إذن كما لو كانت متطلِّبة لقدر عميق بالضرورة إمّا من تغيير القناعات الذهنية وإمّا من إعادة تشكيل البواعث النفسية، لكنها في كل الأحوال تبدو قابلة لأن ترتدّ إلى نقيضها الخوف أو على الأقل إلى التردّد في حال اهتزاز الإيمان بالقناعة الذهنية أو تزعزع الباعث النفسي الأساس بدرجة ما لهذا أو ذاك من الأسباب.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: الأسطورة تصنع الحقيقة.. الفصل الثامن والعشرون من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"