عمرو منير دهب يكتب: الأسطورة تصنع الحقيقة.. الفصل الثامن والعشرون من كتاب "كل شيء إلا الحقيقة"

الأسطورة خرافة تُنسَج على أي صعيد فتشمل مثلاً أعلى من قبيلٍ ما يجتذب الناسَ لكونه يجسّد حقيقة مشتهاة بعيدة المنال، لكن ما الذي يمنع أن تكون الأساطير مصدر إلهام عميق لتجسيد الحقيقة مستقبلاً؟ بل ما الذي يمنع أن تكون الأساطير - أو بعضها على الأقل – حقائق وقعت بالفعل في مكان ما بعيد عنّا، أو حتى من حولنا، لا نراه ولا نحسّ به لأنه يختبئ خارج إطار وسائل إدراكنا الراهنة؟

في "طريق الحكمة السريع" أنّ "كلّ ما أَمْكَنَ تخيُّله من الممكن تحقيقه، وحده ما وراء الخيال هو المعجِز... إلى أن يغدو متخيَّلاً"؛ بذلك فإن الخيال الذي لم ندركه بعدُ هو وحده الجدير بلقب الأسطورة، ولكنها أسطورة ليست مستحيلة التحقّق مطلقاً وإنما بصورة مؤقتة، فتحقُّقها مشروط ببلوغنا درجة اليقين من إمكانية ذلك التحقّق.

بذات السياق، قال لي زميل مرة: "إنني أؤمن مطلقاً بأن المعجزات تتحقّق"؛ رددت عليه بأنني لا أؤمن ابتداءً بأن ثمة معجزات، إشارة إلى ثقتي العظيمة في إمكانية تحقّق أي شيء بصرف البصر عمّا يتراءى لنا من مدى صعوبة أو استحالة تحقّقه.

في كتابه The Idiot Brain، نقلاً عن الترجمة العربية الصادرة عن دار عصير الكتب بالقاهرة سنة 2021 بعنوان "المخ الأبله"، يقول عالم الأعصاب والمؤلف ومؤدّي/ممثل الكوميديا الارتجالية Stand-up comedian دين برنيت Dean Burnett: "بشكل عام، يبدو أن حب المخ للأنماط وكرهه للعشوائية يقود الكثير من الناس للوصول إلى استنتاجات متطرفة إلى حدّ كبير. قد لا تكون هذه مشكلة حقاً، إلا أن المخ أيضاً يجعل من الصعب للغاية أن تقوم بإقناع شخص بأن اعتقاداته واستنتاجاته الراسخة بعمق في كيانه خاطئة، مهما كانت الأدلة التي تمتلكها قوية. يحتفظ المؤمنون بالخرافات ونظريات المؤامرة باعتقاداتهم الغريبة، على الرغم من كل الأشياء التي يرميها العالم المنطقي في وجوههم. وكل هذا بفضل مخنا الأبله".

برغم طرافة التعبير الذي يشير إلى عنوان الكتاب، فإننا نقف ضمن ما سبق من اقتطاف مع مصطلح "العالم المنطقي" تحديداً وليس تعبير "مخنا الأبله"، فلا شيء يودّ هذا المقال بحثَه بقدر ما يودّ بحث/نسف تلك الفكرة، فكرة أن ثمة عالماً منطقياً هو وحده الذي يحتوي المعقول وأن ما سوى ذلك العالم هو مجرد أوهام غير قابلة للتحقّق.

يواصل برنيت – على كل حال - بعدها ببعض التحفّظ، ليس تراجعاً بالضرورة من أجل الإشارة إلى إمكانية أن يكون ما وراء "العالم المنطقي" ممكناً، وإنما على سبيل التنويه إلى المحدّدات التي تقيّد الفهم الراهن لعلم الأعصاب ممّا يمكن أن تتجاوزه الكشوفات العلمية مستقبلاً: "أم ليس الأمر كذلك؟ كل شيء قلته هنا مبنيّ على فهمنا الحالي المنبثق من علم الأعصاب وعلم النفس، لكن هذا الفهم هو فهم محدود نوعاً ما. من الصعوبة بمكان تحديد موضوع الدراسة في ذاته. ما هي الخرافات، بمعناها النفسي؟ ما هي الحالة التي سيبدو فيها الشخص من حيث نشاط مخه؟ هل هي اعتقاد؟ أم فكرة؟ ربما تقدمنا لدرجة أننا نستطيع مسح المخ لنرى نشاط المخ أثناء عمله، لكن قدرتنا على رؤية نشاط المخ لا تعني قدرتنا على فهم ما الذي تمثله، ليس أكثر من أن تعني رؤيتنا لمفاتيح البيانو قدرتنا على عزف مقاطع موتزارت. ليس لأن العلماء لم يحاولوا...".

يذكر بعدها برنيت تفاصيل تجربة تم إجراؤها - من خلال مسح رنين مغناطيسي وظيفي fMRI - على "اثني عشر شخصاً يصفون أنفسهم بإيمانهم بالقوى فوق الطبيعية، وأحد عشر شخصاً من المتشككين"، ليخلص إلى أن "هذه التجربة أبعد ما تكون عن كونها تجربة قاطعة... وذلك لأسباب شتى، أحدها أن التجربة تمت برقم صغير جداً من المشاركين، لكن بشكل رئيسي، كيف يقوم شخص بقياس أو تحديد "الميول الخارقة للطبيعة" للأشخاص؟ هذا ليس شيئاً يغطّيه النظام المتري. يحب بعض الناس الاعتقاد بأنهم عقلانيون تماماً، لكن هذا الاعتقاد في ذاته يمكن أن يكون خداعاً للذات لا يخلو من المفارقة".

نصطدم هنا مجدداً بتعريف المراد بالعقلانية، وإذ يشير دين برنيت إلى "المفارقة" الكامنة في خداع الذات الذي يتجلّى في اعتقاد البعض بكونهم عقلانيين (لامزاً على الأرجح أولئك الذين يؤمنون بالقوى فوق الطبيعية)، فإن المفارقة الكبرى في تقديري هي تلك المتعلقة بربط فكرة العقلانية – من قِبل مَن يعتبرون أنفسهم جديرين بصفة "عقلانيين" - بضرورة رفض المعتقدات الغريبة أو الشاذة التي يبدو إثبات صحتها مستحيلاً. التعريف الأجدر بالعقلانية عندي يكمن في كونها جرأة الإقرار ابتداءً بعدم افتراض خطأ أية فكرة أو احتمال وقوع أي حدث لمجرد أن إثبات صحة الفكرة أو وقوع الحدث يبدو بعيد المنال.

لكن مهلاً؛ بعيداً عن التلاعب بتعريف المصطلحات، لماذا نصرّ على أن مصطلح "العقلانية" تحديداً هو الأفضل؟ لندع المصطلح - بكامل تجلّياته وتداعياته المتداولة - كما هو ونتأمّل التساؤل التالي: ألم تتحقّق الإنجازات الخارقة للمألوف – على كل صعيد في مختلف مراحل التاريخ – بالقفز فوق الأسوار (الأوهام) التي شيّدها الناس (العقلانيون) لتأطير الممكن/المعقول؟ والحال كتلك، ألا تبدو الأسطورة بمثابة الخيال اللازم لتأجيج جذوة الإلهام داخلنا لاكتشاف/صنع حقائق المستقبل من رحم ما يشار إليه اليوم بالمستحيل؟

للتواصل مع الكاتب: ([email protected])