عمرو منير دهب يكتب: حظوة كل بطولة وزمان.. الفصل الثامن عشر من كتاب "نُوْسِعُها ركلاً وحُبّاً"

فازت إسبانيا بكأس العالم لأول مرة سنة 2010، أي بعد ثمانين عاماً من تاريخ أول بطولة، وهي المرة الوحيدة التي حصل فيها المنتخب الإسباني على ذلك الشرف الذي يُعدّ الأرفع في عالم كرة القدم، ولم يصل المنتخب الإسباني لا قبلها ولا بعدها إلى المباراة النهائية للبطولة.. أما فرنسا فقد وصلت إلى المباراة النهائية في بطولة كأس العالم لأول مرة سنة 1998 وفازت بالكأس تلك السنة، ثم عادت ففازت بالكأس للمرة الثانية سنة 2018، أي أنها أحرزت البطولة للمرة الأولى في تاريخها بعد قرابة السبعين عاماً منذ انطلاقتها الأولى.

منتخب الأرجنتين فاز بكأس العالم للمرة الأولى سنة 1978، أي بعد حوالي نصف قرن من انطلاق البطولة. في المقابل، ذاق منتخب البرازيل – الأكثر تتويجاً باللقب والوحيد الذي نجح في التأهل إلى جميع نهائيات البطولة – طعم الفوز بكأس العالم لأول مرة سنة 1958، أي بعد حوالي ثلاثين عاماً من تأسيس المسابقة العظمى. أما منتخب الأوروغواي صاحب اللقب الأول ببطولة كأس العالم سنة 1930، فقد فاز بالبطولة للمرة الثانية والأخيرة سنة 1950، أي منذ أكثر من سبعين عاماً خلت.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: دور الحظ في تحقيق النصر.. الفصل السابع عشر من كتاب “نُوْسِعُها ركلاً وحُبّاً”

لا يوجد منتخب وطني أو نادٍ في أية رقعة من العالم هو الأفضل في كل زمان، تلك من بديهيات الوجود وليست واقعاً في عالم كرة القدم وحدها، فالتميز إلى حدّ الاستئثار بالفوز إنجاز لا يمكن أن يصمد على مرّ الزمان لأي من المنافسين في أي صعيد سواءٌ على المستويات الجماعية أو الفردية بصرف البصر عن طبيعة المنافسة في الرياضة أو غيرها من أنشطة الحياة.

غير أن الأدعى إلى التأمّل – على صعيد بطولات كرة القدم بطبيعة هذا المقام – هو تذبذب الفرق في الانتصار باختلاف طبيعة البطولة تحديداً، وذلك حتى بالقياس إلى الفترات الزمنية نفسها. فمنتخب الأوروغواي – الذي غاب عن منصات التتويج بأيٍّ من ميداليات كأس العالم منذ أكثر من سبعين عاماً – يتقاسم لقب الأكثر فوزاً بكأس أمريكا الجنوبية لكرة القدم (كوبا أميركا) مع منتخب الأرجنتين (خمس عشرة مرة لكل منهما) بفارق كبير عن منتخب البرازيل (تسع مرات) صاحب الرقم القياسي للفوز بكأس العالم والمصنف الأول عالمياً حالياً بحسب الفيفا.

تنطبق تلك المفارقة تقريباً على مختلف البطولات في كل بقاع العالم. فعلى سبيل المثال، تتقاسم إسبانيا – التي فازت بكأس العالم لمرة واحدة فقط بعد ثمانين عاماً من تأسيس البطولة – لقبَ الأكثر فوزاً ببطولة أمم أوروبا (ثلاث مرات لكل فريق) مع ألمانيا. وداخل إسبانيا نفسها يتبادل ريال مدريد وبرشلونة السيطرة على لقبَي الدوري الإسباني وكأس الملك بفارق حوالي عشرة ألقاب لصالح أحد الفريقين في كل بطولة (الدوري الإسباني لصالح ريال مدريد وكأس الملك لصالح برشلونة). وفي إنجلترا يتقاسم مانشستر يونايتد وليفربول مرات الفوز بالدوري الإنجليزي بفارق طفيف (مرة واحدة) لصالح الأول بينما يتقدم الثاني بوضوح في عدد مرات الفوز بدوري أبطال أوروبا (ست مرات). أما في إيطاليا، وبالمقارنة بين ناديَي يوفنتوس وإيه سي ميلان، يكتسح الأول بطولة الدوري الإيطالي بفارق أكثر من خمسة عشرة بطولة عن الثاني الذي فاز بدوري أبطال أوروبا سبع مرات مقابل مرتين فقط للأول.

إفريقيّاً تظل المفارقة متحققة، فبالمقارنة بين المنتخبين المصري والمغربي – على سبيل المثال – نجد أن الأول هو الأكثر تتويجاً على الإطلاق بكأس الأمم الإفريقية (سبع مرات منها ثلاث متتالية) مقابل مرة واحدة فقط للمنتخب المغربي. أما على صعيد كأس العالم، فقد تأهل المنتخب المصري لنهائيات البطولة العظمى ثلاث مرات فقط – لم يحقق خلالها انتصاراً في أية مباراة – مقابل ضعف هذا العدد من المشاركات لمنتخب المغرب الذي اجتاز دور المجموعات في بطولة المكسيك سنة 1986 قبل أن يحقق إنجازاً استثنائياً على الصعيدين الإفريقي والعربي بإحرازه المركز الرابع في البطولة الأخيرة سنة 2022.

خليجيّاً، تكتسح الكويت كأس الخليج بعشرة بطولات مقابل ثلاث فقط للسعودية، في حين شاركت السعودية ست مرات في نهائيات كأس العالم مقابل مشاركة واحدة فقط للكويت.

إذا كان من السهل تبرير تذبذب مستوى أي فريق (منتخب أو نادٍ) عبر فترات متباعدة – أو حتى متقاربة – من عمر الزمان بداعي اختلاف الأجيال وتباين حظوظ اللاعبين المشاركين من المهارة وتغيّر الإمكانيات الرياضية، بالإضافة إلى الظروف المحيطة – سياسياً واقتصادياً على سبيل المثال – التي تؤثر في مستوى الفريق وإنجازاته، فإن اختلاف إنجازات الفريق من بطولة إلى أخرى يحتاج إلى نظرة أكثر عمقاً. الفريق نفسه، كما رأينا، يبرع في بطولات عظمى من طراز كأس العالم ويفشل في بطولات قارية أو إقليمية أقل شأناً من حيث الصيت الكروي، ولكن يبدو أنها ليست أقل تنافسية بالضرورة في كل الأحوال، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي تفسّر اختلاف إنجازات الفرق عبر البطولات.

درج بعض الفرق كما يبدو على أن يأخذ بطولة ما كما لو أنها مسألة حياة أو موت بالنسبة له بدافع حماسة ذات طابع مخصوص في مواجهة خصوم تتأجج بينهم حميّة عرقية أو جغرافية – مثلاً – فيحقق بذلك إنجازات استثنائية عبرها، بينما تخبو همّة ذلك الفريق عندما يتّسع إطار التنافس بما لا تعود معه مسألة الحميّة وحدها كافية لإحراز اللقب (هل يصلح ذلك تفسيراً لبراعة الأوروغواي الطاغية في كأس أمريكا الجنوبية وإخفاقها في إحراز إنجازات موازية في كأس العالم، لا سيما أنها في “كوبا أميركا” تتفوق باكتساح على البرازيل سيد بطولات كأس العالم والمصنف أولاً عالمياً؟).

في كتابه “كرة القدم في الشمس والظل” الصادر عن دار ممدوح عدوان بدمشق سنة 2022، من ترجمة صالح علماني للأصل الإسباني El fútbol a sol y sombra، يقول إدواردو غاليانو Eduardo Galeano: “الجميع يعرفون أنه مما يجلب سوء الطالع أن يطأ المرء ضفدعاً، أو يدوس على ظل شجرة، أو يمر من تحت درج، أو يجلس بالمقلوب، أو ينام بالمقلوب، أو يفتح مظلّة تحت سقف، أو يعدّ أسنانه، أو يكسر مرآة، ولكن هذه القائمة تبدو قصيرة جداً في عالم كرة القدم. فكارلوس بيلاردو، المدير الفني للمنتخب الأرجنتيني في موندياليّ 1986 و1990، لم يكن يسمح للاعبيه بأن يأكلوا لحم الدجاج، لأنه يجلب لهم سوء الطالع، وكان يجبرهم على أكل لحم البقر، مع أنه يسبّب لهم زيادة في نسبة حمض اليوريك. وسيلفيو بيرلوسكوني، سيد نادي ميلان، كان يمنع المشجعين من غناء نشيد النادي، أغنية ميلان ميلان الشهيرة، لأنها تبعث موجاتٍ خبيثة تشلّ أقدام اللاعبين، وفي عام 1987 أمر بنظم نشيد جديد للنادي بعنوان: ميلان يا قلبي… وعشية المباراة النهائية في مونديال 1994، ضمن اختصاصيو العلوم الخفيّة الإيطاليون فوز فريق بلادهم بالكأس. وأكّدت جمعية المنجّمين الإيطاليين للصحافة أن: شؤم سحرنا سيحول دون فوز البرازيل. ولكنّ النتيجة المخالفة لم تؤثر على سمعة هذه الهيئة النقابية”.

ربما كانت المشكلة أننا نحاول الحصول على تفسير مقنع لكل ظاهرة أو حدث لنصدر توقّعات نحب أن تكون منطقية ومتّسقة. وقد رأينا في المقال السابق أن للحظ دوراً يمكن وصفه بالرئيس في تحقيق النصر حتى إذا كنّا لا نعرف على وجه التحديد ما المقصود بالحظ أكثر من كونه كل ما يخرج عن إرادتنا من أسباب ومؤثرات. باعتبار ذلك، وبمشاكسة مقارَبة إدواردو غاليانو الطريفة هذه، ألا يمكن إدراج أسباب تذبذب مستوى الفرق عبر الزمان وتباين إنجازاتها بين البطولات ضمن عامل الحظ بمعناه الأشمل الذي عرضناه في المقال السابق وليس باختصاره في سوء الطالع أو حُسنه بناءً على استطلاعات المنجّمين ونبوءات العرّافين؟

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي: ([email protected])