يوسف الشريف
في كل عمل يستطيع الفنان أحمد أمين أن يثبت أن بإمكانه تقديم المزيد، وأنه يمتلك الكثير من الموهبة والذكاء، فبين رمضان العام السابق 2022 ودوره شديد التميز والمؤثر في مسلسل “جزيرة غمام” حيث لعب دور عرفات، وبين رمضان الجاري 2023 وتقديم مسلسل كوميدي يمكن أن نقول إنه من أقوى المسلسلات الكوميدية التي قدمت في الفترة الأخيرة وهو مسلسل “الصفارة” من إنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية ومن كتابة أعضاء ورشة الكتابة سارة هجرس وشريف عبد الفتاح وعبد الرحمن جاويش وتحت إشراف أحمد امين ومحمود عزت، ومن إخراج علاء إسماعيل.
في البداية هناك نقطة شديدة التميز تحسب لكل صناع العمل وعلى رأسهم بطل العمل أحمد أمين وهو حرصه على التمسك بنفس العناصر الفنية من أبطال وممثلين وحتى من صناع فعلى سبيل المثال شارك كل من الكاتبة سارة هجرس والمخرج علاء إسماعيل في تقديم برنامج “البلاتوه” وبرنامج “أمين وشركاه” وهي الأعمال السابقة لأحمد أمين والتي حققت نجاحًا كبيرًا، بالإضافة إلى هذا فإن تمسك أمين بالعناصر التي تستطيع تقديم الكوميديا التي يريدها والتي اعتاد جمهوره عليها نقطة تحسب له.
بداية من الممثل الكوميدي الموهوب الذي يلعب دورًا كبيرًا في دراما رمضان 2023 هذا العام والذي أستطاع إثبات موهبته عن جدارة وهو الفنان حاتم صلاح، الذي نراه هذا العام في مسلسل آخر وهو “الكبير 7” بالإضافة لمسلسل الصفارة، الفارق بين دوره في كلا المسلسلين كبير، الشخصية الكوميدية في مسلسل الكبير مختلفة تمامًا من حيث الأسلوب والتكوين عن الشخصية الكوميدية في الصفارة، ولكن استطاع صلاح بموهبته الانتقال بسلاسة بين شخصية وأخرى سواء في هذا المسلسل أو ذاك، أو حتى على مستوى تنوع الشخصيات مع اختلاف كل حكاية عن الأخرى داخل مسلسل الصفارة، فهو يحول ويغير من جلده بين كل حكاية وأخرى ولكنه لا يفقد السمات الرئيسية للشخصية، وهو ممثل ظهر في أعمال سابقة لأحمد أمين.
النقطة التالية هي تعدد الحكايات التي تنطلق من حكاية واحدة أو حدث واحد مؤثر وكبير دون أن يشعر المشاهد بتشتت، وهذه نقطة تحسب لكل القائمين والمشرفين على الكتابة، ويجعلنا نؤكد أن الكتابة من أهم العناصر التي يمكن من خلالها ومن اتقانها والاهتمام بها تقديم عمل فني جيد ومحكم، وهنا نرى أن كل الأحداث التي ترتبت على حدث رئيسي وجوهري وهو شعور البطل شفيق بالفشل، ومن ثم عودته لتغيير الواقع المفروض عليه في أكثر من مرة، وفي كل مرة يذهب لحياة جديدة بشكل جديد وقصة جديدة ومختلفة، يتغير العالم من حوله ويتغير شكله وطباعه وظروفه، وفي ذلك مخاطرة كبيرة من كل الصناع وتحديدًا الممثلين الذين استطاعوا السيطرة على الأداء من حكاية لأخرى.
ومن هؤلاء الممثلين هو الفنان طه دسوقي الذي قام بدور وجيه، وهو الدور الذي أطلق عليه في الأعمال الدرامية مساعد البطل، ولكن هنا يمكن وأحيانًا أن تتجاوز مساحة واتقان هذا العنصر الفني مساحة البطل نفسه فيتفوق عليه، وأظن أن هذا ما فعله دسوقي بمهارة شديدة تحديدًا في حكاية المطرب الشعبي، ففي هذه الحكاية أتقن الدور وقدم شكلًا مختلفًا تمامًا عن الشكل المرسوم للشخصية في باقي المسلسل، سواء من حيث الأداء أو حتى تعبيرات الوجه بل ونطق الكلمات، لدرجة يشعر المشاهد معها إنه أمام ممثل آخر غير دسوقي، الذي أستطاع الربط بين أكثر من ميزة في المسلسل.
من بين الممثلين الذين لفتوا الانتباه داخل العمل والذي يجب أن نحييه دائمًا هو الفنان الكبير والفريد محمود البزاوي، والذي يمكن أن نطلق عليه أنه يقدم السهل الممتنع في كل أدواره، فبين آخر عمل كوميدي ظهر فيه البزاوي وهو مسلسل “بالطو” والذي لقى نجاحًا كبيرًا، والذي قام فيه بلعب دور الدجال الذي يبيع الوهم والجهل للناس، هنا يقوم الفنان بدور مختلف كل الاختلاف دور الأب. ليس فقط في الإطار الكوميدي ولكنه في الإطار الإنساني في المقام الأول، فيمكن أن نتأمل تعبيرات وجهه حين يرى أن أطفاله ينظرون إلى أصدقائهم الذي يعمل أباهم في دول النفط وبالتالي دخله أكبر من دخله ومصروف أولاد هذا الرجل أكبر من مصروف أولاده، ولكنه قادر على الابتسام في وجه أبنائه ومنحهم الثقة والرضا كأغلب الآباء.
هذه النقطة شديدة الأهمية فالعمل لا يقدم فقط الوجوه التي عرفها المشاهد مع أحمد أمين في أعمال سابقة ولا يقدم فقط وجوه جديدة، بل يقدم أيضًا بعض الأسماء الكبيرة التي أعطت مذاق وثقل خاص للعمل الفني فبجانب الفنان محمود البزاوي نرى الفنانة الكبيرة والقديرة إنعام سالوسة. هذا المزيج الفريد هو الذي صنع الحالة الفريدة للمسلسل. بين وجوه شابة وجديدة وعناصر تمتلك الخبرة الكافية.
وبين كل حكاية وأخرى لا يكتفي الصناع بتقديم كوميديا تهدف إلى إضحاك المشاهد، وهي كوميديا بعيدة عما يمكن أن يطلق عليه ثالوث الكوميديا التقليدي حيث لا بد من بطل غبي أو إيحاءات جنسية أو بطل ذو سمات شخصية يمكن التنمر عليها أي بطل بدين أو نحيف أو له آذان كبيرة أو أنف أفطس وغيره، يترك المسلسل كل هذه التابوهات الكوميدية ليصنع كوميديا مختلفة بطلها الحكاية.
كل حكاية تناقش فكرة وموضوع له دلالات ولكن في إطار كوميدي، فمثلًا حين يصبح شفيق بطل المسلسل رجل أعمال غني نرى انشغاله ونرى بعد كل المحيطين به عنه لأنه لم يعد قريبًا منهم، ولكن في نفس الوقت نرى أن المال وحده لم يوفر السعادة لشفيق، فنراه في لقطات تذكرنا برائعة “دون كيخوته” للكاتب الأسباني ثربانتس، شخصية سنشو بنثا الرجل الذي أراد أن يصبح أميرًا وغنيًا، ولكن حين امتلك المال لاحظ أن هذا المال يفرض عليه قيودًا ويكبله ويحول بينه وبين المتعة والسعادة، فلا هو يستطيع أن يأكل ما يريد بل يأكل ما يريده الأطباء، هذه الحياة التي كتبت في رواية من أهم الروايات والأعمال الأدبية في تاريخ الإنسانية يتم إعادة عرضها مرة أخرى.
كذلك في الحكاية التي يصبح فيها البطل مطرب مهرجانات، نرى قاضية انحلال وإفساد الذوق العام، سواء من حيث طريقة كلام الشخصيات أو ما يقدموه من فن او شكل ملابسهم وحتى استغلالهم التجاري بوصفهم سلعة، كل هذه أشياء شديدة الواقعية ولها ظلال في الواقع، وليست مجرد خيال.. وفي حكايات أخرى نرة قاضية الجيل الجديد وأساليب التربية الحديثة، وغيره من القضايا الحيوية والمهمة، التي نحتاج إلى الوقوف أمامها لأنها تساءل الواقع، وهذا هو دور الفن الحقيقي.
جاءت نهاية المسلسل ليست نمطية لمسلسل كوميدي بنسبة كبيرة، وليست نهاية وعظيه على طول الخط تهدف لإقناع المشاهد بالرضا عن حياته، بل تهدف لأن ينظر المشاهد إلى حاضره ويحاول تغييره أفضل من البكاء على اللبن المسكوب، أو الماضي الأليم، فالتفكير في الحاضر ضرورة قصوى وكذلك التفكير في التغيير، أمر نحتاجه جميعًا وليس فقط أشخاص “الصفارة”.