"سيدة القصر" وثيقة تاريخية بغواية التجريب

سامح الزهار                                          سيدة القصر  

عادة يواجه القارئ في التاريخ الاجتماعي صعوبة بالغة في استقراء هذا الشكل من الدراسات التاريخية، حيث إن السبب المرجح عند الكثير من المؤرخين هو أن المصادر التاريخية شحيحة جدًا بالمادة عن أحوال المجتمع وتطوره، فإن كتب التاريخ التقليدية لا تقدم لنا إلا لمحات غير دقيقة عن حياة الناس، كذلك الخوض في المسائل الاجتماعية هي قضية غاية في الأهمية، ولكنها دون شك تحتاج إلى كم هائل من المصادر والمراجع المتنوعة لتعطينا صورة متكاملة عن موضوع البحث، وذلك بحكم اشتمالها على نواحي حياتية يصعب دراستها لكونها دراسات اجتماعية إنسانية صادرة عن البشر، وما يزيد صعوبتها هو كونها أحداثًا من الماضي، نقلها بشر أيضًا، ولكنهم لم يصنعوها، فهي مجرد أحداث تداخلت فيما بينها.

في كتابها الأحدث “سيدة القصر، اغتيال قوت القلوب الدمرداشية” والصادر عن دار ريشة للنشر والتوزيع، تقدم الكاتبة سهير عبد الحميد سردية تاريخية أنيقة في عرض بحثي أشبه بالروائي ولغة لم تفقد رصانتها في تيسيرها، مستعرضة القص التاريخي في محصلة ما أنجز فى موضوع الكتاب بعناصر جامعة بين التاريخ والمعطى الإنساني، وذلك في بناء متراكم فيما يشبه الطبقات الجيولوچية، ويحمل بصمات وآثار التفاعل والتواصل المستمر بين منهجية الثوابت وجدلية المتغيرات.

نرشح لك: نادر عباسي: سنعيد إحياء “يادي النعيم” لـ محمد عبد الوهاب وليلى مراد

مغامرة قلمية، تتبعت الكاتبة فيها سيرة شخصية مثيرة هي قوت القلوب الدمرداشية، وهي شخصية بالرغم من بطولتها للحدث إلا أن المسرد الزمني يعتبرها جامعة بين المستويات الثلاث للشخصيات التاريخية، فالمستوى الأول يمثل أصحاب الفعل وأهله، ثم المستوى الثاني من أصحاب التأثير المباشر ومن في مستواهم داخل الحدث أو خارجه ويلحق بهم هوامش بقدر المتون، ثم لا يبقى لشخصيات المستوى الثالث إلا بعض لمحات بين سطور التاريخ مبعثرة هنا وهناك، حيث يصعب على الباحث أن تتكون لديه معلومات تاريخية متصلة بأصحاب هذا المستوى، هذا مع أن هذه الشخصيات التاريخية ــ من المستوى الثالث ــ هم غالبا القائمون فعلا بصناعة الأحداث التاريخية، وهم الأبطال الحقيقيون للدراما التاريخية، وهذا ما ظهر جليًا بين صفحات هذا الكتاب.

ويتجلى السرد الحكائي في هذا النص بمعايشة إبستمولوجية لفهم التاريخ وآليات توظيفه بما يمثل انسجامًا يتوافق مع الوثائق التاريخية فخضعت التفسيرات لفهم الكاتبة ليبدو الفهم نوعًا من التأويل الذي مارسته على صفحات كتابها خاصة في فهمها لظاهرة التصوف بمفهومها الاجتماعي، وهذه ليست تجربتها الأولى في الكتابة عن هذا العالم التي تتماس معه روحيًا، ففي سردها عن الطريقة الدمرداشية وشيوخها، ومرونة انتقالها لزمن سلاطين المماليك ثم العودة لعصر القص، وكذلك المعادلات الموضوعية في عرض أم الدراويش وأعمال البر والإحسان، جمع بين الظاهرتين التاريخية والصوفية وقد غلب عليهما الطابع الوجداني بما ينبغي الانتباه إلى ما يكتنف مفهوم الدين في أدبياتها التي تتنازعها تعريفات متباينة للدين والتي تأثرت بالمذاهب الفلسفية والطرق، ذلك أن الراجح هنا هو العديد من المفاهيم المتباينة منها ما هو ظاهراتي يحاول عرض كل مشترك بين الأشكال المعروفة لظاهرة التصوف المصري، والذي رسخ عمليًا من قرون فأخضعت الكاتبة هذه العلاقة لمحاولات التفسير التي تعتري التصوف وحركاته وطرقه خارج السياق التقليدي.

في مثل هذه الكتابات، لا يمكن إغفال اختيار المراجع المناسبة ونقدها بل والاشتباك معها وهنا نجد حضورًا واضحًا لعدد متنوع من المراجع بين السرديات التاريخية والمقالات المنشورة والدراسات الأكاديمية والدوريات والأرشيف الصحفي، وهو ما يمكننا من القول بأن الكاتبة لديها قدرة نفسية وعقلية على تقصي الحقائق والأحداث التاريخية في موضوع الكتاب، كذلك أوضح مدى أمانة الكاتبة ودقة معلوماتها ونظرتها للأحداث التاريخية موضوع البحث، والذي اعتمد على تحليل المضمون للفهم والإدراك، كذلك ثبوت أصالة النص المكتوب والمدلول الحقيقي له وتفسيره وتحديد الخفي فيه من خلال الإحاطة بمدلولاتها البحثية مراعية في ذلك شروط المكان والزمان ومستوى الثقافة ومعارف العصر الذي تكتب عنه، مما يجعلنا أن نتيقن بأن هذا الشكل من الكتابة التاريخية البحثية في ذاك القالب الأدبي الحكائي هو شكل من الأشكال الجديدة التي صاغتها الكاتبة والتي أعطتها ملمحًا جديدًا بقدرة خاصة على غواية التجريب.

سيدة القصر