عمرو منير دهب يكتب: المنطقي واللا منطقي في كرة القدم

تمريرات يدوية قوية وأنيقة مقابل ركلات عنيفة بالأرجل، أكثر من هدف كل دقيقة مقابل مباراة كاملة قد تنتهي بلا أهداف، إثارة مستمرة تتصاعد كل بضع ثوان مقابل إيقاع قد يستمر رتيباً لنصف ساعة وأكثر.. كان منطقياً إذن أن تغدو كرة السلة هي اللعبة الأجدر بالمتابعة عالمياً وليست كرة القدم، وذلك بحسب وجهة نظر الجماهير الأمريكية عند استضافة بلادها لكأس العالم سنة 1994، ولكن ما حدث أن شعبية كرة القدم لم تهتز بأي مقدار أمام هذا المنطق الراجح بل مضت بثبات متوسّدة قلوب مئات الملايين من عشاق الرياضة وحتى من غير المعنيين كثيراً بها، ليس فقط أفضل من أية لعبة أخرى وإنما على حساب الألعاب الأخرى مجتمعة. اللافت أن التعبير الأخير هذا لا ينطوي على أية مبالغة، فجماهيرية كأس العالم طاغية بوضوح على شعبية بطولة الألعاب الأولمبية، الشتوي منها والصيفي.

في صبيحة اليوم التالي لمباراة المغرب وفرنسا، وبعد تحية بداية يوم عمل معهودة، جاءني زميلان حيث أجلس على مكتبي وابتدراني: كدنا ننهار بالأمس، فأسرعت بالردّ: لا، لا داعي للانهيار، كانت النتيجة على غير ما نتمنّى ولكن الإنجاز لا يزال عظيماً، فردّا: نريد منك التوقيع على هذا التقرير المصغر لإرساله إلى المسؤولين في قسم السلامة من أجل تلافي تكرار إمكانية سقوط باب حاوية أجهزة التحكم في المحطة مجدداً.

نرشح لك: عمرو منير دهب يكتب: الخائن والحقيقة.. الفصل الثامن عشر من كتاب “كل شيء إلا الحقيقة”

كانت المحادثة القصيرة منطوية على أكثر من مفارقة بسبب سوء التفاهم، أو – للدقة – التعجُّل في الفهم (من جانبي بالتأكيد)، فزميلا العمل لم يكونا عربيين ولا إفريقيين ولا حتى من بلد معني بكرة القدم في المقام الرياضي الأول وإنما بالكريكت. كان التعبير بالإنجليزية – التي من الطبيعي ألّا تكون دقيقة بين أفراد من ثقافات متباينة ليست الإنجليزية اللسان الأصل لأيٍّ منهم – عاملاً في إحداث المفارقة/سوء التفاهم (بالانتباه إلى كلمة “ننهار”)، لكن العامل الأساس لا ريب كان التأثّر الطاغي من جانبي بالمباراة التي علّقتْ عليها قطاعات عريضة من الجماهير في المحيط العربي وإفريقيا والعالم الثالث آمالاً عريضة لإكمال تحقيق المزيد من النتائج التاريخية المفاجئة من طراز شبه أسطوري.

أكتب هذه الكلمات قبل ساعات من مباراة المركزين الثالث والرابع بين المغرب وكرواتيا، ومهما تكن النتيجة فإن الإنجاز المغربي/العربي/الإفريقي/العالم-ثالثي الفريد قد تحقق بما يفتح الآمال والآفاق لإعادته وتجاوزه مستقبلاً، وهو إنجاز يتعدّى نشوة النصر الرياضي إلى ما هو أبعد ترسيخاً لثقة ضرورية ومستحقة، أو حتى تعويضاً لنقص بسبب التأخّر في السبق الحضاري الحديث على كل صعيد، لا سيما على صعيد الإنجازات الجماعية وليس البروز الفردي الذي تحقق على كل حال بأكثر من وجه (وقدم) وفي أكثر من مجال.

تصاعدت الأحداث مع تألق الصعود إلى الدور ثمن النهائي بعد أكثر من خمسة وثلاثين عاماً على ذات الإنجاز من الفريق نفسه، واستحكمت الإثارة مع تحقق حلم الصعود المغربي/العربي الأول إلى الدور ربع النهائي، عندها بدأت ملامح وأسماء “الأسود” ترسخ في أذهان ووجدان المتابعين من عامة الجماهير العربية والإفريقية، وحتى العالمية. وكنت قبلها مع الأداء الرائع في الدور ثمن النهائي أسعى إلى قراءة أسماء اللاعبين على قمصانهم وأحاول حفظها ثم “تجربتها” على لساني من أجل المشاركة في التعليق مع الأصدقاء أو الإدلاء بالإعجاب بأداء أي من اللاعبين: “باونو”؟ لا “بونو” فحسب، اسمه “حكيم”؟ لا بل “أشرف حكيمي”، إذن حكيم هو المتميز الآخر “حكيم زياش”، هل هو “مناحي” أم “أو ناجي”؟ بل “أوناحي”، والمدرب نفسه وليد “الراقي”، كلا ” الركراكي”، لأستقر على وليد الرقراقي بحسب النطق الشائع في المغرب والأقرب لنا في السودان. وهكذا، استكمالاً لنشوة حفظ أسماء “اللعابة” والترنّم بها: سفيان بوفال، نور الدين أمرابط، وليد شديرة، يوسف النصيري، رومان سايس، وبقية النجوم، أصبحتُ في موضع يؤهلني ليس فقط للزهو باستذكار واستحضار الاسم ونطقه الصحيح وإنما أيضاً بالمشاركة الفاعلة في التحليل، وهو أمر تجاوزني أنا الرياضي ومتابع الرياضة القديم إلى آخرين ليس لهم من ارتباط بكرة القدم يتجاوز متابعة أجواء وأضواء تسطع مرة كل أربعة أعوام.

ولكن قصتي أيضاً لا تخلو من غرابة مع تقطّع المتابعة حتى بالقياس إلى أولئك الذين لمزتهم منذ قليل بكونهم غير رياضيين ولا متابعي رياضة بقدر يذكر في أي زمان، فما يفصلني عن بطولات كرة القدم لم تكن أربعة أعوام هي الفترة ما بين هذه البطولة العالمية و”مونديال” روسيا سنة 2018، بل أكثر من ثلاثين عاماً ضمّت سبع بطولات من ذات الطراز. وبتجاوز متابعة خاصة للكاميروني روجيه ميلا في نسخة إيطاليا سنة 1990، وتألق مارادونا في المكسيك سنة 1986، فإن ما يفصلني عن متابعة دقيقة لمباريات وأحداث “المونديال” هي أربعون عاماً كاملة ترجع بي إلى نسخة إسبانيا سنة 1982 والتي آل فيها الكأس إلى إيطاليا بينما ظل البطل الجريح الذي حظي بقلوب عشاق فنون كرة القدم هو منتخب البرازيل الذي ضمّ حينها راقصي سامبا من طراز سقراط وزيكو وفالكاو وإيدير أليـ(كـ)سو.

بدا وكأنما القرب الشديد إلى حد الجوار للحدث الرياضي الأبرز هو ما جعل طاقة الجذب تمتد فتشملني لتعيدني إلى هوس المتابعة بما يتجاوز ما فعله اليافع الذي كُنتُه قبل أربعة عقود. وبدا كذلك أن التألق الفريد للمغرب – الذي يلقى حظوة خاصة عندي على مستوى الشخصيات الوطنية العربية – قد كسا ذلك الهوس ألقاً وزانه بمشاعر حالمة وفياضة، والأهم هو ما تبيّن لي يقيناً من أن أربعين عاماً مما يشبه الانقطاع الكامل عن متابعة كرة القدم ومهرجانها الأعظم لم تكن كافية لتقضي على عشقي الرياضي الأول رغم محاولاتي المتعمدة لتجاوز ذلك العشق بغية الوصول إلى ما ظللت أنظر إليه بعد سنوات الطفولة البريئة بوصفه رجاحة عقلية لصالح إبداعات الفكر على حساب الانحيازات التلقائية – ليست البريئة في الأحوال – لانفعالات الوجدان بتأثير لعبة بعينها دون الأخريات.