عمرو منير دهب يكتب: الشهرة بعد الموت: الفصل الثلاثون من كتاب لوغاريتمات الشهرة

يقول الناقد السينمائي بول وارنPaul Warren في كتاب “خفايا نظام النجم الأمريكي” الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة سنة 1995، ترجمةً لكتاب LE SECRET DU STAR-SYSTEM AMÉRICAIN، يقول: “بمناسبة الذكرى الأربعين لعرض فيلم “سان فرانسيسكو”، مررت بتجربة جعلتني أدرك إلى حد ما مدى نفوذ السينما في عهد النجوم الشهيرة.

كان المتحف الإقليمي للفنون في لوس أنجلوس قد قرر الاحتفال بتلك المناسبة وركز الدعاية للفيلم على شخصية النجمين (كلارك جيبل وجانيت ماكدونالد) وتزود بنسخة جديدة للفيلم ودعا أحد الباقين على قيد الحياة من فريق انتاجه، وهو جون هوفمان إخصائي المؤثرات الخاصة بالزلازل. كانت قاعة المتحف الإقليمي مزدحمة بما لا يقل عن ألفي شخص، أغلبهم من أفراد العهد الذهبي، فكان ذلك ملائماً تماماً لمشاهدة هذا النموذج الخاص بذلك العهد.

فعندما أطفئت الأنوار وظهرت على الشاشة صورة الأسد المزمجر، شعار شركة مترو-جولدوين-ماير، كان المرء يسمع بوضوح حفيف انتظار المتفرجين، وانطلقت عاصفة من التصفيق من كافة أنحاء القاعة عندما ظهر اسما النجمين وهما يهبطان من أعلى الشاشة إلى أسفلها. وبالطبع يجب أن نضع في الاعتبار حنين تلك القاعة للماضي، التي راحت تتستر على شيخوختها في الظلام وتتذكر سنوات الشباب الجميلة، فكانت في وضع مثالي لتضخيم صيت نجوم الماضي إلى أقصى حد”.

بعيداً عن الفكرة المحورية لكتاب بول وارن، نقف مع هذا الاقتطاف على شهرة ومجد اثنين من نجوم “الحقبة الكلاسيكية” لسينما هوليود، فبعد عقود على إنتاج “سان فرانسسكو” كانت الجماهير المحتشدة في قاعة المتحف الإقليمي للفنون في لوس أنجلوس تصفق منتشية من أعماقها لكلارك جيبل وجانيت ماكدونالد بداعي الحنين الجارف إلى الماضي، حالة مؤكدة من النوستالجيا، وليس لأن النجمين لا يزالان على قمة مجدهما، فقد كانا فارقا الحياة حينها، والجماهير أصلاً من طائفة كانت “تتستر على شيخوختها في الظلام” على حدّ تعبير وارن، وعليه لا يمكن القول بأن كلا كلارك جيبل وجانيت ماكدونالد كانا لا يزالان يحافظان على نجوميتهما بذات الألق بعد الرحيل.

مهما يكن، فقد حقق جيبل وماكدونالد قدراً معتبراً من النجومية في حياتهما، وقياس مدى تأثيرهما بعد رحيلهما مسألة تتعلق – للدقة – بدراسة مجالها التحقق من امتداد سطوة النجومية بعد موت النجم، أما النظر في النجوم التي ظلت طوال حياتها خافتة وتلألأت بدرجة أو أخرى بعد رحيلها فمسألة تبدو مستقلة على الأرجح.

نرشح لك: تفاصيل الدورة 79 من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي

ليس من المنطق القول بأن المفكر العربي ابن خلدون لم يكن نابه الذكر خلال حياته، فسيرته ترجّح أن حياته كانت حافلة بما يتجاوز محيط الدراسات الفكرية الرصينة إلى بعض مجالات الحياة التي تتطلب معرفة شديدة الخصوصية وحنكة ومراساً كالسياسة والدبلوماسية. ولكن من يذهب إلى أن شهرة ابن خلدون قد ترسّخت بعد خمسمائة عام على وفاته يقصد على الأرجح مكانته و”نجوميته” حديثاً بوصفه كما يشير كثيرون – وإنْ على سبيل التفخيم أحياناً – مؤسس علم الاجتماع الحديث. ومهما يكن الجدل الذي يمكن أن ينشأ بخصوص هذا اللقب تحديداً، فالمؤكد أن الرجل قد أصبح ذا صيت عالمي مرموق بعد نشوء وترسّخ أسس علم الاجتماع الحديث وبيان فضل أسبقية العالم العربي الجليل على هذا الصعيد منذ قرون عديدة خلت من عمر الزمان.

نحن إذن مع ابن خلدون إزاء حالة من النجومية العالمية تتحقق بعد موت صاحبها بقرون، حتى إذا كانت نجوميته على الصعيد العربي متحققة بالفعل إبّان حياته، وهي حالة مخصوصة من “عالمية النجومية” تتداخل أسبابها بين نشوء علم حديث بات يشغل الناس وبين تغيّر موازين القوى السياسية والفكرية والاقتصادية في الزمان لتصبح لصالح الطرف المقابل من العالم، ما يمنح تلك الحالة من النجومية مزيداً من الخصوصية على الأرجح.

ولكن هل يمكن أن يبزغ بعد الموت نجم لشخصية كانت خاملة الذكر بدرجة أو أخرى إبان حياتها؟ تفاصيل الإجابة متشعبة لا ريب، أما الإجابة نفسها فتلخصها صيغة السؤال التالي: لِمَ لا؟ فبالقياس على حالة ابن خلدون يمكن أن تكون شخصية ما منصرفة إلى عمل أو مجال لا يشغل بال الناس حتى في المحيط الجغرافي الذي تبدع فيه، ثم يغدو ذلك المجال جاذباً للناس في ذات المحيط الجغرافي – وربما خارجه كذلك – بعد عقود أو حتى قرون من موت الشخصية التي ظلت مغمورة إلى حدّ ما لتنبعث من جديد فتطلّ نجماً يتألق من السماء على الأرض التي ظلت خاملة الذكر (بدرجة أو بأخرى) عليها طوال حياتها.

في “تواضعوا معشر الكتاب”، وتحت عنوان “بين صياغة الوجدان وصياغة الوجود” رأينا أن “الشهرة بعد الموت هي آخر ما يُـمنــِّـي به مبدعٌ نفسَه حتى إذا كان يدّعي أنه يسبق عصره في إدراك المفاهيم الجديدة، وهو في الحالة الأخيرة يقع في تناقض (حين يسعى إلى الشهرة مخاطباً عصره بما لا يفهمه) يحاول أن يخرج منه بادّعاء آخرَ مفادُه أنه يُحب لعصره أن يعدو بخطى لاهثة نحو المستقبل ليدرك أسرار إبداعه فيحتفي بها وبه في حياته (بدلاً من انتظار المستقبل للاحتفاء بمبدع ولّى وفي نفسه “أشياء” من الشهرة)”.

كتابة ما لا يفهمه أو ما لا يستسيغه الناس ليست جريمة إبداعية بحال، فالتحدي قد يكون بالفعل في أن المبدع يسبق عصره عبر إبداع قد تحتفي به عصور لاحقة. الأهم في هذا السياق على كل حال أن يكون الإبداع أصيلاً وعميقاً بحيث يبقى وليس مجرد أن يسبق عصره ليروق أذواق الناس في عصر لاحق ثم ينحسر، وهذه على كل حال مسألة بالغة التعقيد، فالخلود حلم يشغل بال كل مبدع، ولكن من الصعوبة – ربما بما يقارب الاستحالة – أن ندرك أي الأعمال الإبداعية سيخلد ويخلّد من ثم ذكر مبدعه. ولن أقول هنا بأن المشكلة تكمن في صعوبة التنبّؤ بالمستقبل فقط، بل في تعقيد قراءة التاريخ بصورة موازية، فكثيراً ما نظن أن أعمالاً إبداعية ظلت خالدة لقرون في حين أن قراءة متأنية لتأثير تلك الأعمال على امتداد الزمان تكشف لنا أنه ليس بحوزتنا ما يؤكد سطوة تلك الأعمال على المتلقين في كل عصر، وذلك بالإضافة إلى حقيقة مفادها أن عصوراً عديدة تمر على حياة الأمم تنحسر فيها بعض ضروب الإبداع انحساراً شديداً، وقد لا يكتفي الظلام بأشكال بعينها من الإبداع خلال حقب ما من التاريخ ليضربها وإنما يشمل حقباً بأسرها فيطغى على مجمل أنماط الحياة فيها.

طعم الشهرة يقنصها المبدع في مرحلة باكرة من حياته ألذّ لا ريب لأن الحواس أقوى كلما كان المرء أصغر سنّاً في إعانته على الاستمتاع بما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، والمبدع إزاء الشهرة ليس استثناءً على هذا الصعيد. ولا يمنع ذلك أن يكون للشهرة يقنصها المبدع على كِبَر مذاقها الفريد بدوره، لكنه حتماً مذاق لذتُه أقرب إلى لذة السكينة والطمأنينة منها إلى نشوة الطرَب.

ماذا إذن عن طعم الشهرة بعد الموت؟ قد يبدو السؤال غريباً أو حتى غير منطقي، ولكن الإجابة متاحة على كل حال، فطعم الشهرة بعد الموت مطابق لطعم بقاء الذكر – بعد الموت – الذي يحلم به كل إنسان بدرجة أو بأخرى. ونحن هنا لا نقدّم إجابة شافية بقدر ما نحتال إلى الإجابة من خلال تشبيه يبدو فيه المشبّه به لغزاً في ذاته، ولكنه على كل حال لغز يألفه الجميع ويحوم حوله كل فرد بقدر ما، في صنيع لا يبرّره سوى كونه التفافاً على معطيات الواقع (المنطق؟) أملاً في تحقيق حلم الإنسان الأزلي بالخلود.

للتواصل مع الكاتب:
[email protected]