يوسف الحسيني يكتب: في اللغة والسياسة قول والمصحف !!

دأب الناس في بلدنا على استخدام الأقسام المختلفة لخلق اثر في نفس المُقسَم له يفيد تأكيد معلومة او تثبيت حالة وفاء بالعهد و تفنن ابناء آدم و بناته في اختلاق أقسام و جمل عهود الوفاء بدأ من القسم برأس الوالد الميت و حتى شرف الام التي لا ناقة لها ولا جمل ذهاب بحياة الأطفال و رحمة المتوفين او للدعاء بزوال النعمة او الحرق في جهنم الحمراء و حتى وصل الناس في هذه المبالغات المذمومة و التي ان عكست إنما تعكس غياب الثقة لدى طرفي معادلة القسم ، فالأول يعلم انه معروف بالكذب فلا يجد بدا الا ان يقسم و الثاني غابت عنه الثقة في الآخر حتى انه لا يصدقه الا اذا أقسم و في هذا إشارة لانهيار البنية الخلقية منذ أمد بعيد و التي لم تشهد تطورا إيجابيا يذكر و إنما ذهبت من حال سيئ الا ما هو أضل سبيلا و هكذا صار حال العباد حتى نزلت عليهم الرسالة المحمدية بشبه جزيرة العرب فآمن من آمن بها كل بما تضمر سريرته التي لا يعلمها الا الخالق ، فمنهم من صاحب الرسول الكريم “صلى الله عليه و سلم ” و هو لا يريد متاع الدنيا غير راغب الا في جنة الله الموعودة مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه و منهم من دخل بخير و الهته السياسة و تلاعب به وهم الخلافة و الإمارة مثل عثمان بن عفان رحمه الله و منهم من خاض غمار التجربة متحوطا قلقا و منتظرا لجائزته الكبرى في حين مثل عمرو بن العاصمة و معاوية ابن ابي سفيان رحمة الله عليهم .. و عند ذكر معاوية و عمرو يذكر دائماً إصرار العرب على قسمهم الأشهر ” و كتاب الله ” و المصحف ” ” و القرآن المجيد ” و هو القسم الذي نهى عنه رب العزة بل ان الخالق قد نهى عن القسم الا في اصعب و أضيق الأحوال بل و امر الرحمن ذو الجلال و الإكرام انه عند ضرورة القسم فليكن باسمه عز و جل و هو ما غاب عن عقول العرب الذين أخذتهم الدنيا مثلما أخذت معاوية و عمرو و اللذان يظن الكاتب أنهما اول من قاما بالزج بالمصحف في مناقشات السياسة و الحكم و دنس الدنيا
بل ان خطط معاوية و عمرو في خلق حالة المظلومية و خلط الدين بالسياسة و اعتماد المؤامرة المغلفة بالدين هذهبا و ديدن و هو ما قامت جماعة الاخوان بفعله منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي و حتى اللحظة فرفع معاوية لقمص ابن عمه عثمان هو نفس ما تفعله الجماعة بنشر ڤيديوهات و صور مفبركة فكأن قميص عثمان الممزق والمخضب بالدماء الوسيلة التي استخدمها ابن عمه معاوية ، كما استخدمها أصحاب الجمل من قبله لتأليب الناس وشحنهم لتأييده في محاربة علي والمطالبة بعزله ، حيث إن الإمام كان على زعمهم المحرض على قتل عثمان والمدافع عن قاتليه بسماحه لهم بالإندساس في جيشه ، وقد بايع أهل الشام معاوية خليفة كما طلب منهم ذلك ، بحجة أنه لا يمكن المطالبة بدم عثمان من غير خليفة . و هو ما تفعله الجماعة و من هم على شاكلتها وصولا الى مبايعة أنصار بيت المقدس لأبو بكر البغدادي بالتراخي مع رفع أعلام داعش من قبل مظاهرة الاخوان في المطرية بالقاهرة.

و لكي تفهم المشهد الحالي و كيف تسير الجماعة و موالاتها على نفس النهج فعليك عن تعود بالزمن لأكثر من ١٤٠٠ عام مضت ففي عام ٣٧ هجريا حاول الإمام علي رضي الله عنه و أرضاه أن يقيم الحجّة على معاوية ـ والي الشام ـ وأصحابه بأسلوب الحوار والموعظة الحسنة، حقناً لدماء المسلمين ووأد الفتنة، ولكن تلك المحاولات لم تجد آذاناً صاغية عند معاوية الطامع في الحكم لذا بعد انتصاره على الناكثين في موقعة الجمل بالبصرة، بدأ بتعزيز جيشه للتوجّه إلى الشام لتصفية الفئة الباغية التي يرأسها معاوية بن أبي سفيان ، فبدأت المعركة في ارض بين الشام و العراق اسمها صفّين و كان ذلك في الأوّل من صفر 37هـ ، و كان الامام علي بخلقه الرفيع المعروف عنه قد سعى لإصلاح الموقف بالوسائل السلمية، فبعث أوّلاً بوفد ثلاثي إلى معاوية يذكّره الله، ويدعوه إلى التقوى والورع، فكان جواب معاوية: ليس عندي إلاّ السيف. ، فدعاه الامام فيما بعد إلى المبارزة، حقناً لدماء الآخرين، الا ان معاوية الذي لا يريد الا ملكا عضودا ولكن معاوية رفض المواجهة خشية على نفسه من بطشة علي بن ابي طالب و آثر الحرب على السلام و فضل عراقة دم المسلمين على إراقة دمه هو !

و لما جاءت ليلة الهرير و قد كان البرد فيها قارصاً إلى الحدّ الذي كان يسمع للجنود هرير ، وبالإضافة إلى البرد في هذه الليلة فقد اشتدّ القتال بين الجيشين و قد كان مالك الأشتر قائدا لجند علي و يضرب ضرباته بكلّ قوّة حتّى اخترق صفوف أهل الشام، وأجرى حولهم عمليات الالتفاف والتطويق، فانكشفت غالب صفوفهم، وكادوا ينهزمون، حتّى وصل الأشتر إلى قرب موقع معاوية و فسطاطه فلمّا رأى معاوية بن أبي سفيان انتصارات جيش الإمام علي على ابن ابي طالب ، دعا عمرو بن العاص والي مصر إلى خطّة للوقوف أمام هذه الانتصارات ، فقام عمرو بن العاص بخدعة، حيث دعا جيش معاوية إلى رفع المصاحف على أسنّة الرماح، ومعنى ذلك أنّ القرآن حكماً بيننا،و أراد من ذلك أن يخدع أصحاب الإمام علي وضئ الله عنه للكف عن القتال ويدعون علي ابن ابي طالب إلى حكم القرآن.. وفعلاً جاء زهاء عشرين ألف مقاتل من جيش علي حاملين سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودّت جباههم من السجود، يتقدّمهم عصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج فيما بعد، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين: يا علي، اجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيت، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان، فو الله لنفعلنّها إن لم تجبهم.

فرد علي رضي الله عنه : (عباد الله، إنّي أحقّ من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإنّي اعرف بهم منكم، صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً، فكانوا شرّ الأطفال وشرّ الرجال، إنّها كلمة حقّ يُراد بها باطل، إنّهم والله ما رفعوها، إنّهم يعرفونها ولا يعملون بها، ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة، فقد بلغ الحقّ مقطعه، ولم يبق إلاّ أن يقطع دابر الذين ظلموا).

الا انه لمس منهم ململة فقال لهم : (ويحكم أنا أوّل مَن دعا إلى كتاب الله، وأوّل مَن أجاب إليه…).

قالوا: فابعث إلى الأشتر ليأتيك، وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد اشرف على معسكر معاوية ليدخله، فأصرّوا على رأيهم، وكان أمير المؤمنين رضي الله عنه في هذا الموقف أمام خيارين لا ثالث لهما:
1ـ المضي بالقتال، ومعنى ذلك أنّه سيقاتل نصف جيشه وجيش معاوية.
2ـ القبول بالتحكيم وهو أقلّ الشرّين خطراً.
وهكذا كان القبول بالتحكيم نتيجة حتمية لظروف قاهرة لا خيار لأمير المؤمنين

و قام احد رجال معاوية مناديا ” بين الجيشين : الله الله في دمائنا ودمائكم المتبقية ، بيننا وبينكم كتاب الله ، فقام المتآمرون مع معاوية في جيش الإمام بزعامة الأشعث بن قيس مع الذين انطوت عليهم الخدعة ، لا سيما ذوي القلوب الضعيفة والذين ملوا القتال بمطالبة علي بضرورة وقف الحرب قائلين : ( قد أعطاك معاوية الحق ، ودعاك إلى كتاب الله ، فاقبل منه )

وبهذا انشق جيش الإمام إلى شقين ، وفشلت كل محاولات الإمام بإقناعهم بزيف لعبة المصاحف ، مما اضطره إلى قبول التحكيم . وقام الأشعث بن قيس وهو الذي ترأس حركة المؤيدين للتحكيم في جيش الإمام بترشيح أبي موسى الأشعري ليكون ممثلا ” عن معسكر الإمام في مفاوضات التحكيم ، ولكن الإمام عارض ذلك قائلا ” : ( إن موسى ضعيف عن عمرو [ وهو ممثل معسكر الأمويين ] ومكائده . . . وإنه ليس بثقة ، وقد فارقني وخذل الناس عني يوم الجمل ) وكان الإمام أيضا ” قد عزله قبل ذلك عن ولاية الكوفة بعد تسلمه مهام الخلافة . ومع إصرار الأشعث وجماعته عليه ، ورفضهم رأي الإمام بإسناد مهمة تمثيل معسكر الإمام في التفاوض إلى عبد الله بن عباس أو مالك الأشتر، لم يجد الإمام مناصا ” من القبول واحتساب الأمر إلى الله قائلا ” : فاصنعوا ما أردتم . ثم وقع الفريقان وثيقة التحكيم الأولية تعهدا بها التوقف عن القتال لغاية ظهور نتيجة التحكيم . وقد اجتمع الحكمان بعد هذه الموقعة بثمانية شهور في دومة الجندل ومع كل منهما أربعمئة من صحبه . وبعد أيام من المفاوضات قبل عمرو بن العاص اقتراح أبي موسى الأشعري بخلع كل من علي ومعاوية ، وتعيين عبد الله بن عمر – والذي لم يكن حاضرا ” آنذاك – إماما ” للأمة بدلا ” منهما ثم قاما ليعلنا للحضور نتيجة التحكيم ، فبدأ أبو موسى الأشعري ، وهو صهر عبد الله بن عمر قائلا ” : ( إن هذه الفتنة قد أكلت العرب ، وإني رأيت وعمرو أن نخلع عليا ” ومعاوية ، ونجعلها لعبد الله بن عمر ، فإنه لم يبسط في هذه الحرب يدا ” ولا لسانا ” ) . ثم قام ابن العاص خاطبا ” : ( أيها الناس ، هذا أبو موسى شيخ المسلمين ، وحكم أهل العراق، ومن لا يبيع الدين بالدنيا ، قد خلع عليا ” وأنا أثبت معاوية ) ، فاختلط الناس ، وعمت الفوضى ، وتشاتم الحكمان بأخس الكلمات . ثم انصرف عمرو ومن معه إلى معاوية بالشام ، ولحق أبو موسى بمكة ، ورجع من كان بصحبته إلى الكوفة

من هنا يظهر الفارق بين علي كخليفة راشد و بين معاوية كملك من ملوك الدنيا و سلاطينها و هو نفس الفارق بين من قاموا بثورتهم في يناير و يونيو لا يريدون سوى صالح البلاد و حقن الدماء و ابعاد كلمة الحق تبارك و تعالى عن مهابل الدنيا و بين من هددوا الآمنين و أهرقوا الدماء و و زجوا بكلمة الله و كتاب مقدس لمغانم الدنيا و حكمها الزائل.

نقلًا عن “اليوم السابع”