الدين في حياة أديب نوبل.. حوار نادر لـ نجيب محفوظ

حوار: سهام ذهني

ــ سيرة سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلها مؤثرة، ولقد حقق ما نادى به في شكل دولة وعلاقات إنسانية.
ــ تبهرني شخصية “عمر بن الخطاب” و”علي بن أبي طالب”.
ــ “سيد قطب” كان صديقي وقرأت كل أعماله تقريبا.
ــ أنا معجب بالشيخ “محمد الغزالي”.
ــ البعض يبتعد عن الدين، ثم بالتأمل والنضج يعود إليه، فكأنه دخل الإسلام من جديد، لكن بالعقل وليس بالوراثة.
ــ “سعاد حسني” أجمل نجمة عرفتها مصر.
ــ والفنانة “شادية” إهتدت لما هو أعظم من النجومية.

نرشح لك: بخط اليد.. رسائل من الأدباء والمثقفين لـ نجيب محفوظ في ذكرى ميلاده

ديسمبر 1977
رواية “أولاد حارتنا” بما تضمنته من أمور لاقت اعتراضات دينية، كانت من وجهة نظري مرحلة في حياة نجيب محفوظ، وتجاوزها. هو رأيي الشخصي الذي يزداد اقتناعي به مع أقواله في هذا الحوار الإيماني النوراني المتميز.

فمثلما ذكر لي في أحد حواراتي معه أن “الهلس” كان مجرد مرحلة في حياته، بينما عمره كله قضاه على مكتبه، كذلك فإنني أرى أن ما تضمنته أولاد حارتنا كانت مرحلة في حياته ثم تجاوزها.

وإذا كان الكاتب الكبير قد تعرض لمحاولة اغتيال بسبب أن هناك من اتهموه بالكفر فإن ما تضمنه هذا الحوار مخالف لظنونهم. إنه هنا يفتح قلبه حول الجانب الديني في حياته.

ولأول مرة أجلس إلى كاتبنا الكبير فأستمع منه بصوته إلى آيات من سورة “الرحمن” باعتبارها من أكثر سور القرآن التي يتأثر بها.

في ظلال القرآن الكريم

كنت قد قلت له عندما اتصلت به تليفونيا أنني أريد أن أجري لقاء معه بمناسبة شهر رمضان المبارك. ثم في بيته عندما هنأته برمضان، ووصفت الشهر بالوصف الشهير وهو أنه شهر القرآن وسألته عن أكثر سور القرآن الكريم تأثيرا في نفسه، إذا بالكاتب الكبير يرتل آيات من سورة “الرحمن”، حيث لم يكتف بالإجابة عن سؤالي، بل لقد برهن لي على ذلك بصوته الشجي وهو يرتل الآيات الأولى من السورة. ولقد استوقفني اختياره لترتيل فواتح سورة “الرحمن” بما تتضمنه من قول الله سبحانه: “الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ”.

فالسورة التي تتحدث عن نعم الله علينا في الدنيا والآخرة، قد تضمنت بدايات النعم فيها نعمة “البيان”، وهي نعمة يتناسب جدا أن يذكرها نجيب محفوظ، فالبيان هو التعبير عن الأفكار باللغة سواء بالكلام أو بالكتابة والتدوين وهي بالطبع نعمة اختص الله بها الإنسان. ولقد منح الله نجيب محفوظ فيما يتعلق بالبيان موهبة مشهودة.

أعود إلى الحوار حيث سألته عما إذا كان يحفظ سورة الرحمن كلها، فرد بصراحة أنه لا يحفظها بالكامل. وعندما سألته عما إذا كان يحرص على قراءة القرآن الكريم في رمضان بالذات.

إذا به يرد: بل إنني عندما كنت قادرا على القراءة كنت أحرص على قراءة القرآن الكريم خلال العام بأكمله وليس في رمضان وحده.

ثم يشير إلى أن برنامجه اليومي كان قد خصص به وقتا معينا لقراءة القرآن الكريم، بحيث يستكمل يوميا القراءة من حيث توقف في اليوم السابق، وبالتالي يختم القرآن الكريم كل فترة ليبدأ في إعادة قراءته من جديد، وهكذا.

● أسأله: من هو المقرئ الذي تحب الاستماع إلى القرآن الكريم بصوته؟
ــ يرد: الشيخ “علي محمود”.

● هل تحرص على قراءة تفاسير للقرآن الكريم؟
ــ يرد: قرأت عدة تفاسير للقرآن الكريم.
ثم يضيف: وآخر تفسير عندي الآن هو “في ظلال القرآن” لـ “سيد قطب”.

● أقول: كانت لك علاقة بـ “سيد قطب”.
ــ يرد: طبعا.

● ما الذي تذكره عن تلك العلاقة؟
ــ “سيد قطب” كان صديقي، وقد كان يجلس معنا في كازينو “أوبرا”، وهو أول من كتب عني. وقد فوجئت بسجنه الأول، وعندما خرج من السجن قمت بزيارته في بيته بـ “حلوان”، وكان معي المرحوم “عبد الحميد جودة السحار”، والحاج أحمد السحار”، والأستاذ “سعيد السحار” أطال الله عمره. وفي هذه الزيارة وجدت الوجه الديني له. وقد ذكر لي في تلك الفترة أن هناك عملا معروضا عليه في العراق. فنصحته وقتها بأن يسافر كي يغير الجو الذي هو فيه، فقال لي: “أنا شغلي هنا”، وللأسف أنني لم أفهم ما يقصده بتلك الجملة وقتها، لكن حدث أن تم إلقاء القبض عليه للمرة الثانية.
ولم أكن أصدق أن الحكم عليه بالإعدام سيتم تنفيذه، فقد كنت أظن أن الحكم سيعقبه عفو، لكنني فوجئت بتنفيذ الحكم سريعا، وتأثرت وقتها بشدة.

● هل قرأت أعمال “سيد قطب”؟
ــ قرأت كل أعماله تقريبا.

● وما تعليقك على كتاباته؟
ــ كان ناقدا جيدا، وأيضا كاتب قصة وشاعرا جيدا، لكن كان يغلب عليه أنه مفكر أدبي، وكان في غاية الذكاء.
الشيخ “الغزالي”

● أقول: عندما نشرت رواية “أولاد حارتنا” في الستينيات قام فضيلة الشيخ “محمد الغزالي” بالهجوم عليك، لكن عندما تعرضت لمحاولة الاغتيال قام بزيارتك في المستشفى.

فيكمل لي نجيب محفوظ قائلا: كما قام بزيارتي في البيت أيضا.
ويضيف: لقد كانت علاقتي به طيبة جدا، وأذكر أنني في الأيام التي كنت فيها ما زلت قادرا على القراءة أن الشيخ “الغزالي” كان يكتب في جريدة “الشعب”، وقد كتب كلمة طيبة جدا في حقي عندما تعرضت للهجوم.

● هل علاقتك به مقصورة على فترة المرض؟
ــ علاقتي به من بعيد، فأنا معجب به، وقرأت معظم كتبه، وهو من مفكري الإسلام العظام.

● هل تذكر أعمالا معينة للشيخ “الغزالي” لفتت نظرك؟
ــ كتابه “مائة سؤال عن الإسلام”، لأنني أرى أنه ثقافة دينية وتعليمية هائلة.
ومن كتبه الأخيرة “التفسير الموضوعي للقرآن الكريم”، وهذا الكتاب تم تصويري معه، حيث طلب مني قسم النشر بالجامعة الأمريكية إلتقاط صورة كبيرة مع هذا الكتاب للدعاية له.
للشيخ “الغزالي” كتاب مهم أيضا هو كتاب “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث”، وقد تعرض لهجوم شديد بسببه.

● أقول: بالمناسبة فإن سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

فيردد نجيب محفوظ: صلى الله عليه وسلم.
فأكمل السؤال قائلة أن السيرة النبوية قد كتب فيها “العقاد”، كما كتب “محمد حسين هيكل” و”طه حسين”، ثم “عبد الرحمن الشرقاوي”، فكيف ترى الفرق بين ما كتبه كل منهم؟
ــ أنا قرأت سيرة ابن هشام والسيرة في التاريخ القديم، كما قرأت لـ “هيكل” و”العقاد” و”طه حسين”، لكنني لا أذكر أنني قد قرأت ما كتبه “الشرقاوي”.

ما أتذكره أن “هيكل” كان تاريخيا في التناول. “العقاد” كان يصور الشخصية، لأنه كان يقرأ التاريخ ثم يستخلص منه مفتاح الشخصية ويتحدث عنه، أنا أعجبت جدا بكتابات “العقاد”، أما “طه حسين” فكانت كتاباته أشبه بالقصص باعتباره قد كتب “على هامش السيرة”، وليست السيرة نفسها.

أيضا “توفيق الحكيم” كتب السيرة في صورة حوارات. والجميل فيها أن ما كتبه لا يتضمن أية كلمة لـ “توفيق الحكيم”، فكل الحوار في كتابه عن سيرة سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مستخلص من كتب السيرة، وهو كتاب ممتع جدا.

● ما هو أكثر شيء أثر فيك في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
ــ السيرة كلها مؤثرة، فسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- مثال للأمانة على الرسالة. وقد بلّغها وعانى في ذلك ما عاناه، ثم إنه حقق ما نادى به في شكل دولة وعلاقات إنسانية، فعظمته كبيرة جدا.

● ما الشخصية التي انبهرت بها في التاريخ الإسلامي؟
ــ “عمر بن الخطاب”، و”علي بن أبي طالب”.

● لماذا؟
ــ “عمر بن الخطاب” كحاكم يُعتبر حاكما مثاليا في أي زمان ومكان.
و”علي بن أبي طالب” الفارس، الشهم، الحكيم، القاضي، البليغ.

الصلاة لأول مرة

● أسأل أستاذنا الكبير “نجيب محفوظ”: هل تذكر أول مرة أديت فيها الصلاة؟
ــ يرد: في سن 7 سنوات تقريبا.

● ما تأملاتك حول الصلاة؟
ــ الصلاة عبادة ورياضة نفسية وتجربة أخلاقية كبيرة.

● هل تتذكر أول مرة صُمت فيها؟
ــ أول مرة صُمت فيها كان عمري أيضا 7 سنوات، وكنت أطلع فوق سطوح البيت أنظر إلى مئذنة مسجد “سيدنا الحسين” انتظارا لصعود المؤذن ليؤذن لصلاة المغرب.

● في روايتك “رحلة ابن فطومة” قلت لو كان الإسلام يتم تطبيقه بالشكل الصحيح في البلاد الإسلامية لما أصبح هذا هو حالنا، فكيف ترى التطبيق الصحيح للإسلام؟

ــ يرد: أغناني عن الإجابة أئمة في الإسلام مثل الشيخ “محمد عبده”، أن الطريق الصحيح هو بالإجتهاد.
● تكررت في رواياتك بصور مختلفة أزمة البطل مع الدين، أو في البحث عن سر الحياة، بعد مرور سنوات طويلة على كتابتك لتلك الروايات كيف تنظر الآن لهؤلاء الأبطال؟

ــ إذا كانت الأزمة مدعاة للفكر إذن هذا شيء جيد. البعض في سن المراهقة وغرور الشباب يبتعد عن الدين، ثم بالتأمل والنضج يعود إليه، فكأنه دخل الإسلام من جديد، لكن بالعقل، وليس بالوراثة.

● في رأيك ما مدى تأثير السنين على الإنسان؟
ــ السنين تأخذ وتعطي، فالسنون تزيد الإنسان في جوانب مثل المعرفة والخبرة، لكنها تأخذ منه في جوانب أخرى مثل الصحة.
شادية” و”سعاد حسني

● قلت: لكن السنين تؤثر في البعض بصورة أشد. ومثال لذلك ما جرى مع الفنانة “سعاد حسني” التي ابتعدت عن المجتمعات وعن التمثيل على الرغم من أنها لم تعتزل. وأن هناك من وصفوا ابتعادها بأنه اكتئاب. وطلبت من كاتبنا الكبير التعليق على حالة “سعاد حسني” مع الزمن.

وإذا بإجابته تضيف أبعادا اخرى لفكرة الدين في حياة الإنسان
حيث أجاب ببلاغة قائلا: إن قسوة الزمن على النجوم واضحة. فـ “سعاد حسني” كانت أجمل نجمة عرفتها مصر، وكانت سمعتها الفنية عالية جدا. بالتالي عندما يكبر شخص بهذه الحالة ولا يجد المجال مفتوحا لمواهبه مع تغير الزمن فقد يحدث له أحد أمرين، إما أن يكتئب، أو أن يهتدي لما هو أعظم من النجومية، مثلما فعلت الفنانة “شادية”.

● أقول: لقد ارتدت الفنانة “شادية” الحجاب واعتزلت.
فيؤكد كاتبنا الكبير ما سبق أن قاله حيث يضيف: لقد استبدلت “شادية” شيئا بشئ، والجديد أقيم وأعظم.

وخرجت من اللقاء مع الكاتب الكبير نجيب محفوظ وأنا أشعر أنه مثل معظم أولاد البلد البسطاء في مصر، يملك إيمانا فطريا بسيطا، ونية قلبية خالصة، وأنه وهو الدارس للفلسفة الذي قدم في رواياته علامات الحيرة الفلسفية والدينية على لسان العديد من أبطاله، إلا أنني أشعر أنه يعيش وجدانيا ودينيا مع الفطرة السليمة.

 

(الحوار منشور بكتاب بعنوان “ثرثرة مع نجيب محفوظ”، للكاتبة والصحفية سهام ذهني، والصادر عن أخبار اليوم)