كلمة السر "سيوة"

كتب: هالة منير بدير

تصوير: نور العبد وشمس العبد

إن رأيت كافة الأبواب مغلقة؛ فكلمة السر هي “سيوة”، بمجرد أن تطء قدمك أرض واحة سيوة ستجدها قريبة بشكل لا يمكن أن تتخيله، ربما لأن روحك قد عاشت هذه الأجواء في زمان ما، وربما لأنك عشت حياة شبيهة في قرى وادي النيل، وأنت طفلا مع والديك في رحاب أجدادك، حيث الأصالة والبساطة، الهدوء والسكينة تلمسهم في كل الأرجاء، لا بهرجة وضجيج حياة المدينة، ستلمس الود والألفة على وجوه وفي قلوب أهل الواحة، ترتاح لابتسامتهم وترحابهم وخدمتهم لضيوفهم.

سيوة كلمة السر

الطريق إلى سيوة من القاهرة يتجاوز الثمان ساعات ولكنه يمتد لإحدى عشر ساعة بسبب الاستراحات ووعورة الطريق بعد مرسى مطروح وكمائن الجيش، كنت أعلم أن الطريق شاقة ولكن جمال الطبيعة والبحث عن الهدوء والهرب من صخب ومشاق الحياة كان هو الهدف، الطريق من مطروح إلى الواحة ينحرف اتجاه الشمال الغربي، يمتد إلى 300 كيلو متر تقريباً، تمتد الكثبان الرملية على الجانبين، صحراء واسعة، وليبيا إلى يمينك بنحو 60 كيلو متر، الواحة التي تقع في أقصى غرب مصر، تقبع على بحر من الرمال في الصحراء الغربية، تنخفض عن سطح البحر بنحو 18مترا، فلا رطوبة في الأجواء فيصبح التنفس أصفى وأنقى، تسمع صوت الصمت والسكون أحياناً كثيرة، وأحيانا أخرى مزيج مريح من شقشقة العصافير وحفيف سعف النخيل مع هبات الهواء صباحا، أو حشرات الليل مساء مكونة سيمفونية لطيفة من الضوضاء البيضاء.

سيوة كلمة السر

تدخل المدينة يقابلك هيئة استعلامات سياحية وقسم شرطة سيوة ومبانٍ حكومية بطراز بدوي محبب إلى النفس، المباني لا ترتفع إلا لدورين أو ثلاثة، سوق لطيف وسيارات فارهة وعربات نقل، مبانٍ قروية بسيطة، النخيل على الجانبين وقطوفها دانية، التمور والرُطب تتدلى، تتجلَّى المدينة باللونين الأصفر والأخضر أثناء النهار، وفي الليل الضوء خافت أو الظلام باعث للسكينة.

سيوة كلمة السر

أحد أهم الفنادق في الواحة هي الفنادق البيئية والتي صممت على الطراز البدوي حيث الجدران ودورات المياه من حجر “الكرشيف” مصنوع من الرمال والملح والطين، والأسقف من أخشاب وجذوع النخيل، الأثاث بسيط من “الكليم” المصنوع يدوياً، النوافذ والأبواب خشبية والإضاءة خافتة، لا توجد وحدات تبريد وإنما مراوح فقط، الجلسات عربية والمطاعم تقدم الإفطار التقليدي من بيض وفول وجبن وشعيرية بالسكر وبسيسة.

أينما درت ببصرك ستجد نخلة، تستند إليها بظهرك، تظلك في الظهيرة، وتقطف منها التمر في العصاري، وتتنفس تحتها نسيماً عليلاً والقمر من فوقها في المساء، فقط ستحتاج جهازاً طارداً للناموس لأن البيئة الزراعية حولك في كل مكان.

الواحة ينتشر فيها العيون، أشهرها عين كليوباترا يسبح فيها سياح الواحة فهي عين فوارة، بالإضافة إلى العيون الكبريتية التي في مياهها علاج للأمراض الجلدية، بها العديد من الآبار والعيون التي يستخدمونها لتعبئة مياه الشرب في محطات تحلية خاصة بالواحة.

سألنا الأستاذ يوسف إبراهيم أحد أبناء سيوة ومرشدنا عما يريد أن يقوله عن سيوة فقال:
من يكتب عن سيوة اللغة والهوية لابد أن يكون أكثر دقة وعلم، رِتم سيوة هادئ، والسائح قادم من مدينة كل أحوالها هرولة، لابد أن يتفهم أنه ترك حياة السرعة ودخل حياة السكون كي يتأقلم بسهولة، فالصحي هو الهدوء والابتعاد عن الضغوط. للأسف كل رواد سيوة يأخذون القشور ويغادرون، عليهم الغوص أكثر في العادات والتقاليد، لو تفهموا ذلك حقاً لواكبوا أجواء الواحة ولتمتعوا فيها أكثر، بعض السياح لا يراعون المجتمع المحافظ في عاداته، فواحة سيوة بداخلها مجتمعات وقبائل لها أصول وتقاليد.

نرشح لك -“سيوة”.. أكثر من مزار سياحي وسوق تجاري

نرشح لك- العلاج بالردم في سيوة.. رمال واحدة شفاء لأمراض عديدة

وعن الأمازيغ قال:
مجتمع سيوة لم يكن يعلم أن له امتداد إلا في الثمانينات، إذ كانوا يلتقون بغيرهم من أمازيع شمال أفريقيا في موسم الحج، لغة أهل الواحة هي “اللغة السيوية” المتفرعة عن اللغة الأمازيغية، فهي لهجة منها، المجتمع السيوي كان لفترة طويلة منعزلا، لطبيعة الصحراء والحدود، فاختلفت لغة كل مجتمع اختلاف بسيط بسبب اندماج حضارات مختلفة، فمثلا اندمجنا هنا مع العرب وفي الجزائر اندمج الأمازيع مع الفرنسيين، فأخذت اللغة لكنات معينة في كل لهجة، لنا من العراقة والأصول لأن أهل سيوة اختلطوا بالحضارة الفرعونية والرومانية بدليل وجود كلمات من اللغة الهيروغليفية داخل اللغة السيوية.

وعن الدراسة والصحة ومجتمع النساء في سيوة:
ينشأ الطفل بلغة آبائه ثم يبدأ بالتقاط بعض الكلمات والأناشيد العربية من التلفاز، ثم يتعلم الأطفال اللغة العربية في المدرسة، المدارس مشتركة باستثناء المعهد الأزهري، نشجع البنات على الدراسة وإكمال تعليمهن فلا حجر عليهن، المستشفى مجهزة بأحدث الأجهزة ولكن المشكلة دائماً في توافر الأطباء، الواحة معتمدة على القوافل الطبية. مجتمع النساء مجتمع متلاحم مهتم جداً بحضور المناسبات والتزاور، ليس فقط على نطاق الأقارب الضيق، وإنما تمتد المجاملات وتتوطد الأواصر، وتخرج النساء للتسوق ففي كل البيوت توجد متاجر، يشتهر كل منها بنوع معين من البضائع والتجارة، النساء ينظمن معاً الرحلات فيخرجن بجانب عين من العيون للنزهة والاستحمام والطهي. البنت لها الحرية قبل الزواج في أن تكشف وجهها أو تغطيه، أما بعد الزواج فعلى المرأة تغطية وجهها وارتداء الملاءة الزرقاء “تًرْفُوتِتْ”.

سألنا الحاج أحمد موسى مضيفنا في سيوة عن ممارسات وأهم عادات أهل الواحة:
معظم السيويين يأخذون حصة الدقيق من الأفران ويخبزون بأنفسهم في البيوت، يتعاون الجيران مع بعضهم البعض ويتم الاتفاق فيما بينهم للخبز كل يوم في أحد البيوت، حتى لا تشعل كل البيوت أفرانها يوميا. إذا وضعت إحدى سيدات سيوة مولودها، فإن جيرانها وأقاربها لا يتركنها لمدة أربعين يوما، يقومون بمساعدتها في كل مهام البيت.

لا سب ولا تحرش، ولا مضايقات، تكاد تكون الجريمة منعدمة، فالرادع الداخلي موجود والنبذ المجتمعي هو العقاب، البيوت والاستراحات والفنادق على اتساعها ليس بها حراس.

سألناه عن أشهر طريقة للطهي في الواحة “أبو مردم”:
تُحفر في الأرض حفرة تكفي حجم برميل معدني، يوقد فيها حطب شجر الزيتون حتى يصير جمرا ملتهبا، ثم توضع شبكة دورين، الدور العلوي فيه اللحوم المتبلة، ومن تحتها في الدور الأسفل الأرز، يغلق عليها بغطاء كبير ومن فوقه رمال فوقها أيضا الجمر المشتعل وتبقى لمدة ساعة أو ساعة ونصف، وبانتهاء المدة تخرج الطبخة جاهزة للأكل.

سيوة

سيوة

علمنا أن الأطفال في سنيهم الأولى لابد أن يتعلموا السباحة، تعجبت حينها لأنهم ليسوا على بحر أو نهر، ولكن العيون الكثيرة التي لديهم عميقة، تجعل الأهالي يخشون على أطفالهم السقوط والغرق فيها، فيعلمون أولادهم السباحة للتعامل مع الماء عند الطوارئ، يتلقى الطفل دروس السباحة في العين نفسها ابتداء من سنة الثلاث سنوات، يربط له “زناء” يساعده على الطفو، وهي عوامة من نبات يشبه القرع ولكنه فارغ من الداخل.

من المشهور عن الواحة أنه لا مفقودات، لا أحد يضيع منه شيء إلى الأبد، هي مسألة وقت حتى يجدها أحدهم، فيضع المفقود في مكان ظاهر كي يجده صاحبه بسهولة أو يدله عليه أحد المارة، وأنا أستمع إلى مواقف رد المفقودات إلى أصحابها كأني أستمع إلى حكايات ألف ليلة وليلة، أمانة لا تعرفها المدينة اليوم إلا فيما ندر، دخلت أحد المحلات لأشتري بعض الصابون والأعشاب لم يكن بها صاحبها أو أي بائع، المسؤول عن المحل قرر تركها في أمانة الله، لا لص ولا متلصص ولا متطفل، وقفت لما يقرب الربع ساعة حتى جاء البائع، الأمان هو السمة الأساسية في الواحة وأهلها، وروح التعاون والمحبة تجمع الكل.

سيوة

سيوة