كل الشهور يوليو... شعرية المفاجآت وحركية التاريخ

د.محمد سليم شوشة

بعض التمثلات والتطبيقات الفعلية لفن الرواية ربما تشعرنا بأن الرواية فن عملاق جبار، الخطاب الثقافي وفي الأدبي بالأساس يجب أن يتسم بهذه الصفات من قوة التأثير والفاعلية والهيمنة على المتلقي، ولكن كيف تتحقق الفاعلية والتأثير والهيمنة للخطاب الروائي. هذه الرواية المدهشة والنادرة في طاقاتها المجتمعة هي واحدة من أبرز التمثلات الخاصة لفن الرواية التي تكشف عن قدرات هذا الفن وعظيم تأثيره وفائده وأهميته وتكشف عن إمكاناته أو قدراته التي يمكن أن تستغل أو يتم استثمارها معرفيا وجماليا.

دكتور محمد سيد شوشة
د.محمد سليم شوشة

نرشح لك:12 تصريحا لـ إبراهيم عيسى.. عن “كل الشهور يوليو”

كل فن أو نوع أدبي له معادلته الخاصة التي تشكل هويته وتحدد نقاط قوته وخصوصيته عن الفنون والأنواع الأخرى، فلا يمكن المساواة بين فن وآخر أو نوع ونوع مهما كانت نقاط الالتقاء أو التقارب أو التشارك في السمات والملامح. فلا يمكن أن يكون فن الرواية هو السينما أو الدراما، لأن للكتابة خصوصيتها ومساحاتها المختلفة في التخييل وإنتاج المشاهد وإلقائها أو طرحها على المتلقي، وتبدو قمة خصوصية النوع الأدبي أو الفن مع تمثلات بعينها وتطبيقات خاصة، سرد إبراهيم عيسى مثلا وبشكل عام يبدو الأكثر بعدا عن الاختزال والانتقاء والنخبوية، ويركز على التفاصيل ومهما كان من استناده إلى الاستراتيجية المشهدية فهو لا يخضع لها بل يحلق في استطردات تلاحق كافة التفاصيل ويوغل في تتبع الملامح النفسية والتصوير الداخلي للعقل والعاطفة والوجدان وخلجات الشخصية وغيرها الكثير.

هذا بشكل عام، ولكن يمكن كذلك وصف سرده أو ملامح خطابه الروائي بأوصاف أخرى كثيرة مثل أنه خطاب الحقائق الكاملة أو سرد الحصر والاستقصاء والتسجيل، فهو سرد تسجيلي يفيد كثيرا من البحث التاريخي الأكثر دقة، فهو ينتمي بدرجة ما إلى الكتابة التي هي تحقيق تاريخي خالص أو يلتزم كل الدقة والتتبع لكل ما هو متاح من مصادر تأريخية حقيقية أو شبه متواترة ومتفق عليها ومن السهل إيجاد عديد المصادر المؤيدة لما يطرح من تفاصيل تاريخية أو بيانات ومعلومات، ومساحة التخييل برغم ضخامتها تبقى بعيدة تماما عن فكرة توجيه الخطاب وجهة خاصة أو بعيدة عن هذا البحث الاستقصائي في التاريخ أو تجاوز الدقة بأدنى درجة من التجاوز أو تعمد التجاهل لمعلومات أو بيانات لأي غرض من الأغراض.

هل يمكن إذن القول بأن الخطاب الروائي لإبراهيم عيسى القائم على الرواية التاريخية هو سرد أقرب إلى متحف معرفي وتاريخي يعمد فيه السارد إلى ترميم الحقائق واستعادة الصورة الكاملة من كافة المصادر ودمج الوحدات المهشمة وجمع التفاصيل المتناثرة أو المفقودة أو الإشارات والعلامات التي تبددت تحت أي ظرف أو سبب من الأسباب؟ هل يمكن أن ولاء السارد ليس لشيء آخر غير الحقيقة الكاملة أيا كانت النتيجة أو الصورة، فضلا عن أهداف جمالية أخرى، يريد استنهاض التاريخ وإقامته أمامه مرة أخرى في جداريات ولوحات ومشاهد يتأملها جميعا هو والمتلقي على السواء ليتنسى إعادة قراءة هذا التاريخ واستنطاقه بوجهات وآراء كثيرة؟

في الحقيقة هي رواية وكتابة سردية تكاد تكون معجزة ومخاتلة للمقولات والنظريات النقدية التقليدية فهي مشحونة بكم مهول من المعارف والتفاصيل والبيانات والمعلومات والأحداث الخطيرة والمتوترة والمتلاحقة، وحافلة وراء هذا كله بتقنيات سردية مهمة مختفية وغير سهل إدراكها ربما لنعومتها أو تواريها وراء هذه البنية الضخمة أو هذا الظاهر المشحون بكثافة معلوماتية ومعرفية ضخمة وأحداث متلاحقة.

من جماليات هذه الرواية مثلا أنها برغم اعتمادها على الخط الزمني الطبيعي وتتبع الأحداث دون أي مغايرة في الترتيب الزمني تبقى في قمة التشويق وهذا نابع من إحساس منشئ الخطاب السردي بما تكتنز الفترة ذاتها من التوتر والتشويق الطبيعي الذي هو ناتج الأحداث، فالمتلقي الذي يكون في مستوى رؤية المواطن وزاوية متابعته ونظره في تلك الفترة يكون في أقصى درجات التأثر بما في الأحداث من توتر وتشويق ودهشة وبخاصة مع التتبع لكافة التفاصيل الكاملة وتجاوز فكرة الانتقاء التي ألفناها وهيمنت على سردنا لأحداث ثورة 23 يوليو سواء في الكتب التعليمية أو في الدراسات التاريخية أو الدراما أو السينما أو في السرد الشعبي الجماعي المتشظي أو كافة أشكال التعامل الاستعادي والسردي لهذه الأحداث، وكلها تقريبا تسير على النهج ذاته من الانتقائية والتزام الخط الأساسي وحذف وبتر كثير من الأحداث والمعلومات وتجاوز كثير من عناصر اللوحة الحياتية الكاملة بكل خطوطها وخيوطها وتقاطعاتها وتفاعلها، فربما من النادر مثلا الحديث بشكل واف وكامل عن دور الأمريكان وتزايد نفوزهم من قبل الثورة بقليل وحتى بعدها بقليل، وكذلك دور الإنجليز أو صورة الشيوعية والتيار الشيوعي الصاعد في مصر متأثرا بحالة الشيوعية بشكل عام في العالم في تلك الفترة، وكذلك أثر الصحافة والإعلام وفكرة التخابر وعلاقات الأحزاب ببعضها وصراعها بشكل تفصيلي وكامل وبالأسماء والأحداث التاريخية غير المجزوءة أو المبتورة عن عمد أو جهل. إنما مسألة ربما تبدو معجزة أن يقوم خطاب روائي على محاولة ترميم كل هذه المساحة من الأحداث التاريخية في لحظة من أكثر لحظات التاريخي السياسي المصري تأثيرا وخطورا وأكثرها مصيرية وأهمية في تحديد وجهة الأعوام القادمة وشكل الحكم وعلاقة مصر بغيرها من الدول أو بالمسار العالمي عموما في سياق هو بذاته قلق وغير واضح ويضاف إلى هذا الإعجاز من الناحية التاريخية والمعلوماتية الموافقة للحقائق والمصادر أن تكون هناك أهداف جمالية مثل التشويق والتوتر والتدفق السردي وتغير الإيقاع والمشهدية التي تهيمن على المتلقي من البداية للنهاية فتجعله كأنما يشاهد فيلما سينمائيا عبر نقلات وأوصاف وتحديد للأشياء والحركة واللزمات الخاصة بالشخصيات أو العادات السلوكية وغيرها الكثير من الجماليات.
فيما يخص شكل الروائي ومما يتصل بقوة بجماليات هذا الخطاب السردي نجد أن الرواي له عند إبراهيم عيسى سمات خاصة فهو راو عليم نعم لكنه بسمات وملامح بشرية، يملك المعلومات والحقائق من زاوية تاريخية وتعليقاته تتسم بالإنسانية فهي أحيانا تعليقات هزلية أو ساخرة أو مبالغة شاطحة أو يتعمد التلاعب بالألفاظ ففي سمات هذا الراوي سمات الإعلامي الذي يريد أن يضحك متلقيه أو أن يصرح بمشاعره وانفعاله تجاه شخصية معينة أو لا يدعي الموضوعية فيتحزر من التعليق أو السخرية أو المبالغة من تصرفات جمال سالم مثلا وقد استغله السرد الروائي استغلالا مثاليا عبر تصوير أقرب لأن يكون كاريكاتوريا في إطار سياق حافل بالحركة والدراما وكوميديا الموقف، كان يكون الناس مثلا مشغولين بمخرج قانوني في اجتماع يضم مجلس قيادة الثورة والسنهوري وسليمان حافظ مستشار رئيس الوزراء علي ماهر باشا في أكثر اللحظات التاريخية دقة وبرغم ذلك نجد أن سلوكيات جمال سالم بعصاه وصورته الكاريكاتورية حاضرة بقوة، كما تحضر اللغة الساخرة للسارد الرئيس في كثير من الحالات التي غالبا ما تتحول من الجد إلى الهزل أو الإضحاك وليس هو فقط بل بعض الشخصيات الأخرى مثل حالة غياب المعرفة عند محمد نجيب مع طيبته الزائدة وما يمكن أن يكون لديه من بعض الارتباك أو الحيرة وغيرها الكثير من الشخصيات الثرية والحافلة بالتفاصيل النفسية والحركية وصاحبة الأدوار البارزة والمصيرية وكلها يتم رصدها بتوسع كبير في الوصف وتجاوز الانتقائية مثل شخصيات كثير من الضباط الأحرار الذين كانوا ينتمون إلى الإخوان أو لهم خلفية إسلامية ويتم سرد المشاهد وهندسة حركتها بطابع إخراجي بديع يربط بين التنظيم الكتابي والفضاء السردي وقفلات الفصول وختامها وبين أداء الشخصيات أو حركتها أو مشاهدها مثل مشهد حضور كمال الدين حسين بماء الوضوء في لحظة بعينها ليلقي برأيه أو صوته في مسألة النقاش أو لحظات التشويق في تصويت أعضاء المجلس على عودة الجيش إلى الثكنات وترك السياسة ورسم ما دار من جدال ونقاش ووصف للتصويت بترتيب معين يحدد يجعل الأحداث مشدودة شعوريا تجاه بؤرة جمال عبد الناصر الذي كان يحاول أن يقودهم إلى الرأي المنحاز للديمقراطية والعودة مرة أخرى وغيرها من المشاهد التي تبدو مصيرية وتوصف بكل دقة في مزج للأشياء والصور واللوحات والسيارات والطائرات والملابس والتهوية والطقس والكثير جدا من عناصر المكان التي تمتزج بالموضوع وبالشعور والانفعلات والمواقف المصيرية والتاريخية وتختلط بما في العقول والمشاعر من المخاوف والتخطيط والترتيب والانفعال والغضب والحنق والمكيدة والغيرة والترقب والتسلل إلى المواقع والسلطة وهكذا في لوحة حياتية متكاملة وممتزجة ببعضها تجعل المتلقي في حال من الانفتاح في حواسه ومشاعره ليستقبل هذا العالم الصاخب وفق كل هذا التنوع في المدركات الحسية والذهنية.

الراوي المستطرد أحيانا في تأملاته واستبطانه لداخل الشخصية الروائية يصنع أحيانا قطعا للمشهد نعم ولكن هذا في ظننا أنه يكون في صالح السرد لأنه يصنع مزيدا من التشويق لأنه التوقف في نهر الحركة المشهدية يكون لاستعادة تاريخ الشخصية أو بعض مواقفها القديمة أو الأحداث السابقة أو تأمل مشاعرها تجاه ما يحدث إنما يجعل المتلقي أكثر اشتياقا لاستكمال الحدث بعد وعي كامل بالشخصية في ضوء هذه الإضافة الجديدة. فعلى سبيل المثال شخصية عبد المنعم عبد الرءوف الضابط الإخواني وهو ينتظر في منطقة الأهرامات لينطلق إلى الإسكندرية يتم تتبع تاريخه في وقف لمشاهد الزمن الآني حتى تبدأ حركة الشخصية بعد ذلك في مسارها أكثر وضوحا وفي إطار مواقفها النفسية من القيادة أو من جمال عبد الناصر تحديدا أو موقفه من الإخوان وتاريخه معهم وتاريخه مع عبد الناصر. والحقيقة أن هذه الاستطرادات صنعت تمديدا في الزمن الروائي وفي عالمها لأنها تجاوزت الزمن الآني الذي هو في الأصل أيام من شهر يوليو لتكون أعواما من العمل التنظيمي داخل الجيش أو غيرها الكثير من الأحداث السياسية السابقة التي تعود لحرب فلسطين أو إلى الحرب العالمية كما نرى مثلا في بعض المشاهد المستعادة في ذاكرة السادات وقت عمله مع الألمان أو وقت طرده من الجيش أو غيرها الشخصيات التي دائما ما تأتي في إطار تاريخها الكامل وفي إطار صورة نفسية وموقف تاريخي كامل ومحدد التوجهات والأيديولوجيا بنسبة كبيرة وإن كانت غير صارمة لأن كثيرا من الشخصيات مهما بدت نمطية تصبح في بعض الأحيان قابلة لعديد التحولات أو التغير والاختلاف مع تغير السياسة أو الموقف الجديد أو السياق الذي فرضته أحداث الثورة أو الحركة المباركة.

في ظننا أن رواية كل الشهور يوليو تطرح استخداما خاصا لراوٍ عليم له ملامح مغايرة وغير تقليدية، راوٍ عليم قادر على التحول إلى ما يشبه رواية الأصوات أو ينسل داخل الشخصية ليصور تيار الوعي لديها أو خواطرها ومخاوفها أو قلقها أو وجهة نظرها غير المعلنة على أن يبقى برغم ذلك على سمته الإنساني وطبيعته الساخرة ولا يتمسح في قدسية الراوي العليم النابعة من ادعاء الموضوعية والحياد أو النظرة الفوقية المحايدة أو غير المنحازة، فهو لا يتخلى عن لغته الساخرة الهازئة والمجازية والمبالغة المضحكة في كثير من الأحيان، كما لا يتخلى عن سمت الراوي العليم القادر على استقراء الهواجس وأسرار النفس والخطط الكامنة والمخبوءة عن عمد، في أجواء تتسم بقدر كبير من السرية والغموض وحالات التربص بالآخر والمنافسة على المكانة والحكم والمنافسة في الرأي وفرض وجهة النظر على الآخر في أمور مصيرية، يتماوج فيها حالات متعاقبة وعديدة من المد والجزر والانقباض والانبساط وبخاصة داخل مجلس قيادة الثورة وضباطه المتحفز كل منهما للآخر، وقد كان هذا التصوير الداخلي لكافة الشخصيات من الضباط وبما فيها من حولهم وبخاصة شخصيات علي باشا ماهر وسليمان حافظ والسنهوري وبعض الشخصيات النسائية قد أسهم هذا التتبع النفسي في تحديد مواقعهم من بعضهم بدقة ورسم خريطة علاقاتهم وقدر تنافرهم أو قربهم نفسيا وفكريا بما يجسد بدقة الصورة النهائية الحافلة بالتوتر والشد والجذب.

في الرواية جماليات كثيرة خاصة بحركة الصحافة وتاريخها وأسرارها وأبرز أسمائها وقدر خطورة أدوراها وكيفية تعاطي بعض أعضاء المجلس معها وكيفية الاستفادة منها في مراحل مختلفة وفيها تبدلات أو تحول من شخصية صحفية إلى أخرى. كما فيها كذلك رصد لحضور ضخم للأدوار الأجنبية بالصورة المتشابكة مع الإعلام أو التقاطع والتعارض بين إنجلترا وأمريكا واختلاف موقف كل من الضباط منهما أو من غيرهما من القوى العالمية. وفيها الكثير جدا من الخطوط والخيوط والتحولات في مصائر الشخصيات ما بين السعادة والخيبة والصدمة والصعود والهبوط والوضوح بالنسبة لبعضهم أو الضبابية بالنسبة لأكثرهم، تصوير للحالة الشعبية والصورة المجتمعية الشاملة لمصر في ظل هذه الحركة للجيش وتتبع دقيق لما يموج به المجتمع من حالات الترقب والخوف والأمل أو القلق، حالات صراع الأحزاب أو الصراع القانوني والدستوري والاختلاف في الرؤية حتى ليمكن القول في النهاية إنه يكاد يكون الاستنهاض التاريخي الأوفي لثورة 23 يوليو عبر السرد. وهذا الوصف بالأوفى هو ما نقصد به جماليات إضافية من أن يكون المتلقي أمام معلومات كثيرة ربما يعرفها لأول مرة وبدقة عن أعداد الضباط الأحرار بالنسبة لكل ضباط الجيش وكيفية السيطرة والإدارة والتغيير التدريجي في الحكم والصراع الداخلي بين الأحزاب وبخاصة موقف على ماهر وغيره من حزب الوفد، ويتبدى قدر ما كان لدى كثيرين من المصريين من كراهية أو صراع مع حزب الوفد، وكذلك صورة جماعة الإخوان بالنسبة للحركة المباركة بحسب التسمية وقتها، وأدوراها سواء فيما يخص عدد الضباط في الجيش أو موقفهم من السياسة وأدوارهم في الحركة ما بين التأييد الشعبي أو غيره من الأدوار الخفية، وكذلك الأمر فيما يخص ثروة الملك المطرود ووجهته وتفاصيل علاقاته وحياته وتفاصيل كثيرة خاصة بالعائلة المالكة وبخاصة فاروق وإخوته وأصهاره وكل شخصية منهم لا يتم اجتزاؤها.

وفي مستوى جمالي آخر ومهم يتبدى ما بالرواية من تفاوت في الإيقاع السردي وتغير نغماته أو وحداته ما بين البطء والسرعة والوصف والحركة والوقفات التأملية أو التحليلية أو الجدال والرأي والنقاش والانفعال والعصبية أحيانا، والتحول بين الأمكنة الكثيرة جدا في القاهرة وخارجها وإن كانت كاميرا الرصد السردي لتركز في الغالب على أماكن التوتر والمشاهد المصيرية أو على المشاهد التي يكون فيها ترتيبا خاصا ومهما ولو كان غير رسمي أو في الظل أو الظلام، في سرد يتسم بما يمكن تسيمته بالتقريب الدائم أو خاصية الزووم zoom in على الأحداث وداخل الشخصيات، فيكون السرد لاهثا متسارعا في المكان أحيانا ثم يهدأ ويستكين وينتظر ويتباطأ حين يقرر الدخول إلى عقول الشخصيات ونفوسهم ليرصد ما فيها مثلما رصد ما كان في المكان من حركة وأوراق وأجسام وتنقلات وصدامات ظاهرة أو مكتومة، عاجلة أو مؤجَّلة إلى لحظة ما، فيكون المتلقي مستعدا دائما إلى لحظة انفجار محتمل ومتوقعا لها في ضوء ما مر به أو يعايش من أحداث مشحونة بما في نفوس هؤلاء القادة الجدد وبما تزدحم به عقولهم من أفكار وتطلعات شخصية أو للصالح العام.

فيما يخص المضمون أو ما بالرواية من أفكار أو معلومات فيمكن القول بأنها تتسم بطابع بلوري وهي إن كانت حاسمة في موقفها السلبي من بعض الشخصيات أو الأسماء أو سمات بعض القادة وقتها لكنها تبقى منحازة للحقيقة فقط ولهذا ربما تتباين مواقف المتلقين منها بين مؤيد للثورة ومحبا لعبد الناصر قد يتزايد حبه له أو غيرهم ممن يختلفون عليهما أو ينحازون إلى المسار الديمقراطي الذي كان عبد الناصر أول من يؤيده لكنه تراجع عنه حين وجد أغلبية الضباط مصرين على الاستمرار في الأدوار السياسية ثم يعمل على قيادة الأمر إلى الوجهة التي يريد هو تحديدا، فيصح القول أنها تدعم كثيرا من الآراء التي قد تبدو في ظاهرها متعارضة وهذا غير صحيح لأنها بالأساس إنما تنحاز للحقيقة أو للمعلومة التاريخية الصرف وحشد كل هذه الحقائق لا يعني الخروج بموقف نهائي أو قراءة واضحة لهذا التاريخ وتلك الأحداث الصاخبة بل رأينا أن الفهم والقراءة الأكثر دقة للتاريخ لا يمكن أن يتما إلا في ظل هذه المعرفية الكاملة وأن التأويل الدقيق للتاريخ والاستنتاج الأكثر قربا من الحقيقة والطابع العلمي هو الذي يضع في اعتباره كافة الحقائق والأحداث في ضوء بعضها أو صفها كلها إلى جانب بعضها متوازية حتى تتحقق هذه القراءة وهذا التأويل وذاك الفهم الذي يتزايد احتياجنا له بمرور الزمن وبتكرر أخطائنا ومزالقنا السياسية التي هي أقرب لحال من العبث وغياب الرؤية.

تقارب الرواية بدرجة عظيمة من الإخلاص ذلك النسيج الاجتماعي والسياسي الذي تشكل منه المجتمع المصري وتكبر تحت مجهر الرصد السردي خلاياه وأنسجته سواء ما يخص وضع الإنسان المصري وحالته من الثقافة والتعليم ووقوعه تحت تأثير عوامل كثيرة داخلية وخارجية وأحواله الاقتصادية وحال المرأة وغيرها الكثير من الظواهر التي هي عامل أساسي في توجيه حركة الثورة أو تحدد شكل القيادة والأوضاع التي آلت إليها مصر بعد هذه الحركة وطرد الملك.

فيما يخص لغة السرد الروائي فإنه كعادة سرد إبراهيم عيسى هناك دائما الكثير من الألعاب اللغوية والتصويرية والاستعارات والتشبيهات التي هي نابعة بالأساس من المعنى أو المشهد أو الحالة الإنسانية التي يتتبعها السرد أو يقاربها ويعمل على اقتناصها بكامل أبعادها أو بثقلها النفسي الذي ربما لا تكفي اللغة غير المجازية في التعبير عنه أو التعليق عليها. فالراوي ذاته له موقف نفسي سواء من الملك أو من أمه أو إحدى أخواته فيعلق على أي شخصية بلغة مجازية حافلة بالتشبيهات والاستعارات وهي لغة برغم عصريتها توظف معجما واسعا أو يمكن وصفه بأنه رحيب ولا يستبعد مفردة ربما قد تبدو قديمة لكنه قادر على استعادتها وتقريبها أو تفصيحها عصريا عبر وضعها في سياق مشهدي يجعلها سهلة، مثل كلمة (لَأْيٍ) أو غيرها من المفردات والمجازات وبعض التعبيرات القرآنية والدينية التي تصبح جزءا طبيعيا في لغة السرد بتدفقه ومساره السلس الراكض وراء الأحداث والمتتبع للمشاهد كأنما يراها السارد وهي تحدث أمامه في اللحظة ذاتها التي يتحدث فيها ويحاول نقلها للمتلقي، فكأن السارد راءٍ يرى ويطلع في التو على الثورة وأحداثها ومشاهدها وينقلها لنا طازجة ساخنة وهي تحدث في شاشة بلورية أو سحرية مثل تلك التي كانت للجن في ألف ليلة وليلة، وليس يجمعها من الكتب والمصادر والمرويات، فتتحقق هذه المعادلة المهمة التي تؤطر السرد كله وهي قمة الدقة التاريخية مع قمة الجمال الأدبي والنبض والحيوية لحياة انتهت وانقطعنا عنها.

والحقيقة أن بها الكثير من الجماليات الأخرى التي تحتاج إلى بحث يطول وأمثلة تطبيقية كثيرة تدعم كل هذه السمات والمقولات، بما يتناسب مع ضخامة هذا الخطاب الروائي كما وكيفا وثراء معرفيا ومعلوماتيا وثراء جماليا.