ماذا فعلت إيميلي في باريس فأحبتها المصريات؟

فاطمة خير

“كل شيء كان جاهزا، أعني لم تبق لي قرارات لاتخذها حتى القرارات الخاطئة، عرفت طوال الوقت ما سيحدث، والآن لا أعرف شيئا، كل شيء جديد، ومربك، ومخيف نوعا ما”.

عليك أن تنتظر حتى الحلقة الثامنة (في موسم يتكون بالأساس من عشر حلقات) من مسلسل “إيميلي في باريس” حتى تسمع هذا الاعتراف من البطلة، التي تخطف أنفاسك ببراءة تعلقها بالمدينة الأوروبية الأولى التي تزورها فتصبح أقرب ما تكون للتعبير المصري الشهير”قروية بهرتها أضواء المدينة”.

نرشح لك: قنديل.. العاشق للتاريخ والباحث عن الهوية

المسلسل الذي لا يزال محتفظا بوجوده ضمن قائمة الأعلى متابعة في مصر منذ عرضه، هو أحد أعمال شبكة نتفليكس الأصلية، والتي تشتهر أغلبها بقلة التكلفة وذكاء الفكرة، لكن هذهِ المرة يبدو أن الشبكة راهنت على شريحة مضمونة التعاطف: النساء غير المتحققات إنسانيا؛ ومن الواضح أنها بالطبع قد كسبت الرهان.

يدور المسلسل حول فكرة بسيطة للغاية، حيث يلعب الحظ دوره لتنتقل فتاة شيكاغو إلى باريس، في حين أنها لا تتقن الفرنسية، لتجد نفسها في مواجهة رحلة عمل لم تستعد لها على أي مستوى، وشعب تجهل لغته وثقافته، وبيئة عمل غير ودودة، لكنها أيضا تعرف كيف تحارب من أجل البقاء، وكيف تستغل الفرصة، وكيف تبحث عن جمال مدينة اشتهرت تاريخيا بالرومانسية والجمال، حتى وإن كانت ظلال كآبة العصر الحديث قد طالتها.

إيميلي التي أتت من بلد يدمن أهله العمل باعتباره غاية، ويمارسون الاحتراق الوظيفي بفخر، ترتبك قليلا حين تلتقي ثقافة مختلفة تقدس الاستمتاع بالوقت، ولا تعترف بالاحتراق الوظيفي – أو هذا على الأقل ما يقدمه المسسل – المفارقة أن العمل يظهر كثيرا من العنصرية المتبادلة بين بلدان الغرب، التي تتعالى غالبا على القادمين من الشرق، والمسلسل يتنقل بسخاء محدود بين معالم باريسية شهيرة، لكن بطلته لم تفقد أبدا إيقاع أدائها المنبهر والمتحمس، صحيح أن محاولة لإظهار الثقافة الأمريكية باعتبارها المنقذ العصري من شيخوخة الثقافات القديمة قد بدت واضحة طوال الحلقات، لكن أيضا الوجه القاسي لهذه الثقافة قد بدا واضحا حين تمت مقارنته بثقافة لا تلهث وراء شيء ما طوال الوقت.

حبيب إيميلي الأمريكي الشاب تخلى عنها لأنه لم يتحمل فكرة ابتعادها لعام وهو لا يريد أن يكون وحيدا فلِما تُحتسَب علاقة لا يستفيد منها؟ لكنه أيضا رجل قرر أن يكون القرار له منفردا فإما أن تعود ولا تكمل انتدابها لعام، أو لينفصلا، ضاربا عرض الحائط بقصة حبهما ورافضا فكرتها بلحاقه بها في باريس ليستمتعا بوقتهما، على اعتبار أنها قد اتخذت قرار السفر بما تقتضيه مصلحتها المهنية ولم تنتظر رأيه! فكان أن عاقبها، وبدلا من توجهه للمطار كما اتفقا يتصل ليخيرها بين البقاء في باريس واستكمال انتدابها، أو إنهاء العلاقة، وقد اختارت هي الثانية بلا تردد حتى ولو كسر ذلك قلبها.

إيميلي.. هي الفتاة العصرية كما يجب أن تكون، فغالبا ما من شابة أو امرأة في عمرٍ ما إلا وتعرضت للاختيار نفسه سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، لكن إيميلي العصرية التي تحترم استقلاليتها لم تتردد في اتخاذ القرار الذي ينحاز لمستقبلها المهني، ولحريتها في الاختيار عموما، وهو ما تحلم به فتيات هذا العصر.. بل ونساءه اللاتي قطعن شوطا كبيرا من مشوار الحياة.

اختارت إيميلي الوحدة في مدينة تحرض على الحب مقابل ألا تتنازل عن كرامتها وحريتها واستقلالها، واختارت أيضا أن تواجه بشجاعة كل تحديات العمل الذي قرر فريقه إجبارها على الرحيل في أسرع وقت، لا عجب إذن أنها خلبت لُب المصريات، وحقق المسلسل نجاحا كبيرا بينهن، ففي داخل كل واحدة منهن إيميلي تبحث عن ذاتها، عن تحقيق أحلامها البسيطة.. والمشروعة، إيميلي لا تضطر للتنازل فقط لأنها امرأة، أو أنها فتاة ذات نشأة شبه قروية.

لكن بالطبع فإن إيميلي محظوظة كونها أمريكية تعيش رحلتها الأولى في باريس، فمجال التحرك بحرية هنا يمتد على كل المستويات، منه ما تسمح به الثقافة الشرقية، ومنه ما يخالف العادات والتقاليد، لكنها في النهاية أصبحت كفراشة تجرب كل شيء، ولا تخاف من الفشل، تبدأ يومها بالتريض بحرية، ثم تناول الفطور في مقهى، ثم تتوجه إلى العمل الذي “لا يعلق لها المشانق” إذا تأخرت، ثم تبدأ يومها بصراعات عنيفة.. لا يهم، فلديها بقية النهار وأول الليل لتختار وتقرر ماذا تفعل، تُكون صداقات جديدة، تبحث عن حب يملأ فراغ قلبها: تختار، دوماً تختار.. وهو أمر جدا عسير إذا تعلق بفتاة شرقية.

لا تمتلك إيميلي مهارات خارقة بالمقارنة بأية فتاة مصرية، لكنها بالتأكيد تمتلك “الحرية”: حرية الاختيار.. حرية الحركة.. حرية التجربة، ولا ذعر من الفشل، ولا من محاكمة المجتمع، لتكتشف بعد رحلة ليست سهلة في مدينة واسعة، أنها جاءت ليس لتنفذ انتداب جهة العمل، وإنما لتبحث عن حياة “غير مُعلَبة”، وأنها تتقبل تماما الثمن الذي تدفعه؛ حيث أن الأمر يستحق، ينتهي الموسم الأول من المسلسل لكن تبدأ معه رحلتها الجديدة لحياة أكثر وعيا واشتباكا ونضجا في باريس التي اختارت أن تبحث فيها عن هويتها الجديدة، الهوية التي تُمثل إيميلي صاحبة الاختيار لا إيميلي “المُعلَبة”.

وفي اختيار واضح لرسالة أراد المسلسل إيصالها، يأتي تيتر نهاية الموسم الأول برائعة الأسطورة الفرنسية إيديث بياف Non, je ne regrette rien

“وفي النهاية.. أنا لا أندم على أي شيء لا.. لا شيء
أنا لا أندم على أي شيء
ولا حتي إذا أحاطني الشر
كل ذلك.. وأنا بخير
لا.. لا شيء
أنا لا أندم على أي شيء
لقد مرت.. ونُسيت
ولقد جننت من الماضي
ومع ذكرياتي
أشعلت النار
حزني وفرحي
لم أعد بحاجة إليهم مجددا”.
وأي امرأة لا تتمنى ألا تكون كذلك.. تماما كإيميلي؟