سيد محمود يكتب: "المنسي" الذي لا يُنسى

المرة الأولى التي قرأت فيها اسم محمد المنسي قنديل، كنت طالبا في السنة الجامعية الأولى، وأمر بصورة شبه يومية على مكتبة هيئة الكتاب بميدان الجيزة لأشتري روايات “مختارات فصول”، وفي غالبية زياراتي للمكتبة اعتدت أن يكون معي الصديق ياسر عبد اللطيف الذي أصبح كاتبا بارزا الآن.

كنا نتبادل الترشيحات ونحب سلسلة “مختارات فصول” التي أسسها ورأس تحريرها الناقد سامي خشبه، ومعه النبيل إبراهيم أصلان، وكان نائبا لرئيس التحرير، وأظن أن جيلي كله مدين لهذه السلسلة بالكثير، فقد كانت رفيعة المستوى، رخيصة الثمن وقد يندهش قراء الجيل الحالي إذا عرفوا أننا كنا بخمسين قرش نقرأ لمحمد المخزنجي “رشق السكين “، ولعبد الحكيم قاسم “الأشواق والأسى”، و”حبات النفتالين” للعراقية عالية ممدوح، ومن خلال السلسلة أيضا عرفنا رواية “زهر الليمون ” لعلاء الديب، و”السين والطلسم”، و”القيمة والمستحيل” لبدر الديب و”البحر ليس بملان ” لجميل عطية إراهيم، وغير ذلك من الأعمال العلامات التي قلبت كياننا وغيرت تصوراتنا عن الأدب، ومن بين هؤلاء برز محمد المنسي قنديل باسمه الثلاثي، وتساءلت: “لماذا يوقع أعماله بهذا الاسم الغريب؟”

نرشح لك: طبيب أرياف.. كيف تنبت أغصاننا بلا أرض تحتضن الجذور؟!


في تلك الفترة كنا مولعين بالعناوين التي تنطوي على غموض يثير شغفنا بالكتابة أو تحمل نبرة رومانسية تلائم أعمارنا ومزاجنا الشعري، وتلبي حاجتنا إلى صرخة تستوعب التمرد والاحتجاج فكانت عناوين من نوعية “بيع نفس بشرية” مؤثرة، وتشبه الصرخة، ثم جاءتنا “فاطمة” بطلة “انكسار الروح” و استقرت في أرواحنا كسؤال الراوي في الرواية: “من أنت يا فاطمة؟! ومن أين أتيتِ؟ وإلى أين كنتِ ترحلين ويطويكِ الغياب؟ ولماذا؟ ثم لماذا أصررت على تلك النهاية؟ صدقتِ حين قلتِ أنه لن ينسى أين التقاكِ بعد الغياب.. حقاً لن ينسى… تركتيه وحيداً مذعوراً وقت طويل.. وفي النهاية.. تركتيه عارياً حتى من الأمل.. عارياً حتى من الحلم”.

ظلت فاطمة -رغم ما فعلت- خالدة في المخيلة مثلها مثل “ضحى” بطلة “بهاء طاهر، و”رامة” بطلة إدوارد الخراط. وكن رفيقات تلك السنوات البعيدة. وبفضلها انفتح قلبي لمحمد المنسي قنديل وفرحت وأنا أقرأ اسمه على تيترات فيلم أحببناه وقتها وهو “أيس كريم في جليم”. شاهدت الفيلم لأكثر من مرة، على الرغم من عدم حبي أنا وأصدقائي لعمرو دياب لكننا كنا منحازين لهذا الاحتجاج ونحن نستعد لمغادرة الجامعة.

بعد أن عملت محررا صحفيا للشئون الأدبية، أدركت الكثير عن خبايا عالم الأدباء وصرت مثل كثيرين أعرف الشلل الفاعلة فيه، وعرفت أفرادً من “شلة المنيل” وهي خلطة ساحرة تجمع أدباء وفنانين وسياسيين منهم رضوان الكاشف، وعادل وسامي السيوي، ومجدي أحمد علي، وأنور مغيث، ثم “شلة المحلة” التي كانت كلها للأدباء والنقاد الذين ذاع صيتهم ومنهم الأساتذة سعيد الكفراوي، وجابر عصفور، ونصر أبو زيد، وجار النبي الحلو، وفريد أبو سعدة، والمنسي قنديل، ومحمد المخزنجي الذي جاء إليهم من المنصورة ودخل في النسيج وكان أول من قرأت له بينهم)، وتأخر لقائي به لعدة سنوات وترسخ في قلبي ولعا بأدبه لا يزال قائما إلى الآن.

وحين حاولت التعرف عليه علمت أنه يعمل بالكويت التي كانت البلد الثاني الذي أسافر إليه في مهمة صحفية، آنذاك كنت في العام 2001، وأقل من أن يتعرف علي أحد من وفود المؤتمرات، أوفدتني مؤسستي الصحفية لتغطية مهرجان للمسرح وفي بهو الفندق تحركت بخجل وتردد إلى أن أوقفني سعيد الكفراوي بطيبته المعروفة وهتف في وجهي: “أنا أعرفك، مش كده؟” ، قلت له نعم: “أنا أعمل مع إبراهيم أصلان في صحيفة الحياة”، فرد ببساطة: “خلاص خليك معايا، أنا رايح أقابل المنسي قنديل ومحمد المخزنجي.. لازم تيجي معايا”، فطار قلبي من الفرح”.

ذهبت معه إلى فندق آخر يستضيف ندوة تعقدها مجلة العربي، وبين الجلسات غمرني سعيد الكفراوي بمحبته الطازجة وأحاطني برفاقه من “شلة المحلة”، وفي المساء جاء محمد المنسي قنديل وزوجته الرقيقة إلى فندقنا، وقضينا أمسية في المقهى القريب وغنت لنا ممثلة ومغنية سورية كانت تحضر المهرجان وصارت من الأصدقاء. وفي تلك الليلة لمست روح “المنسي” المحبة للحياة والتي يتحدث عنها بعمق وببساطة أيضا.

تباعدت اللقاءات لظروف سفره وظلت المحبة قائمة، أحرص على قراءة أعماله وتناقشني ابنتي في عالمه بعد “أنا عشقت”، وتنجو معه من كتابات ضعيفة ويقود أجيال إلى مساحة أرحب وتنضم فيها عائشة وبستانها إلى “فاطمة”.

ومرت سنوات إلى أن دعتني جائزة البوكر لحضور حفل إعلان الفائز بالجائزة، وكان المنسي ينافس عليها وخلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب إعلان الفائز، لمست عن قرب انزعاجه لأن الجائزة لم تذهب إليه.

بعد أقل من خمس سنوات أدخلتني يد الله في التجربة حين تم اختياري محكما في لجنة جائزة البوكر وتقدمت للمسابقة رواية “كتيبة سوداء” التي فتنتني وجميع أعضاء اللجنة في مراحل التحكيم الأولى، إلى أن وضعنا معايير للفرز في المراحل الأخيرة انتهت إلى عدم اختيار الرواية لأسباب ليس هنا المجال الأنسب لذكرها، وتوقعت أن يلاقيني المنسى قنديل بغضب، لكنه في أول لقاء بيننا وكان حفلا لتوقيع رواية “أكابيلا” لمي التلمساني، احتضتني وقال لي: “أنس الموضوع.. الغلط عندنا”، فأكبرت فيه قدرته على التسامي، خاصة وأن تلك التجربة عكرت أنهارا من المحبة بيني وبين أصدقاء تاريخيين.

قبل شهر تقريبا التقيت المنسي وزوجته في معرض الفنان عمرو سعيد الكفراوي، فقلت له: “طبعا خايف تاخد غياب من شلة المحلة”، فرد قائلا: ” شلتنا كلها حضور مفهاش غياب”، وضحكنا كما فعلنا في سهرتنا الأولى.

نرشح لك: طارق إمام يكتب: “كتيبة سوداء”.. ملحمة سردية لـ سيرةُ أجسادٍ مظلمة