"روح" صاحب المقام.. من ذاق عرف

فاطمة خير

يقول أصحاب الفهم “من ذاق عرف”، معنى لن يفهمه إلا من فُتِحَ لهم باب الفهم.

ويقول مولانا جلال الدين الرومي “وما الموسيقى إلا أزيز أبواب الجنة”، وهكذا هي الفنون جميعاً، فالفن منحة إلهية خالصة، “وهبة” من الله الذي يحب الجمال، لا فضل لمبدع فيما يُنتِج، ووحدهم ذوو القلوب المرهفة يفهمون ذلك، ربما يعمل الفنان كي يخرج ما وهبه الله له إلى العالم، لكن البذرة ليست سوى منحة إلهية يهبها الله لمن يشاء..وكذلك باب الفهم يفتحه لمن يشاء، لا جزاءً على عمل، ولا نتاج لعبادة، وحده سبحانه يعلم السر، ووحده له الأمر.

نرشح لك: حاتم حافظ يكتب: صاحب المقام الـ “مختلف عليه”

 

حلت “روح” في المكان قبل الجميع، طبعا.. فهي سر الخلق الأول، يوم كان كل شئ قبل أن يكون أي شئ، سكنت في المكان/ المستشفى، مصطحبةً سكينتها معها ، تحظى باليقين، وتنثر الطمأنينة على الجميع.

تعرف “روح” كل شئ، فيما يبدو أنها تثق في”الرحلة”؛ لكنها لا تقول أكثر من المطلوب فهمه في لحظةٍ معينة.

تبدو “روح” هي المرشد في الطريق، وتبدو أيضاً أنها “العلامة” وقت الحاجة. علامة لا يراها إلا صاحب الرحلة.

لا تظهر “روح” بشكل منطقي بالطبع، فلا منطق مع “الفهم”، ولا منطق مع “الرحلة”، ولا منطق في “الطريق”، وليس كل من فيه يراها، فليس كل من سار.. وصل.

يدخل الإنسان في “التجربة” كي يجد “الطريق”، وإذا كان محظوظا سيسير فيه دون تردد، سيختبر الألم، والأسى، والخوف، والشك، والفقد، وسيفقد اليقين أحيانا أو كثيرا، وستكون تلك فرصته الحقيقية للخروج من “المصفوفة” حيث اشترى الوهم، بعد أن تم بيعه له على أنه النعيم، فيدخل الدوامة التي تبدو بلا نهاية، ويغترف الكنوز البراقة، ثم يطلع النهار فيكتشف أنها نحاس لا ذهب، ولا فرصة للبدء من جديد! وحدهم المحظوظون من يختبرون ألم التجربة، فتترك الندوب ثقوبا يتسرب منها النور، وحينها.. إما أن يردموها عن قصد فتعود المصفوفة القديمة تماما كما كانت: وهماً يسقيهم ماءً مالحاً لا يروي، أو.. أن يتركوا النور ليدخل عبر ثقوبٍ صغيرة تتسع مع الوقت، وكلما كان الثقب/الألم أكبر، كلما أضاء النور أرواحهم أكثر، وأرشدهم في الطريق، طريق صعب لا يمكن التنبوء بمفاجآته: آلامه وأفراحه، تجد فيه الأمل ثم لا يلبث أن يضيع، هو يختبر يقينك لا أكثر، ولا يصمد فيه الجميع.

وحدهم من يتحملون جَلَدَ الرحلة، وعثرات الطريق، يفوزون بالنهايات الرائعة، حين تأتيهم السكينة بعد رحلة القلق، والطمأنينة بعد الخوف، واليقين بعد الشك، حينها يستحقون الفوز بما يحبون، وهؤلاء يصبحون “لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون”.

هكذا كُتِبَ على “يحيى” بطل فيلم “صاحب المقام” أن يخوض الرحلة، إنسان في عز عنفوانه، يبدو أنه يمتلك “كل شئ” يحلم به أي رجل: الشباب والمال والنجاح والذكاء والزوجة الجميلة المحبة والابن، حاز يحيى على الدنيا وما فيها، عمل واجتهد وسارت حياته بشكلٍ مثالي، نال جزاء سعيه، وظن أنه في القمة، لكنه لم يكن يسمع، ثم يخسر قلبه/زوجته دون مقدمات، ليجد نفسه في لحظة وقد فقد ما لا يمكن استرجاعه بكل ما أُوتي من مال، وما لم يكن قد توقع خسارته، يرقد حبه أمام عينيه بلا حراك، والطب عاجز، وهو بلا حول ولا قوة، وهو من كان قبلها بساعات لا يرى هذا الحب وهو يضيع منه بالفعل بسبب الإهمال، فقد انخرط رجل الأعمال الناجح تماما في حروب عالم الأعمال الشرسة التي لا ترحم ولا تتوقف، ولم يعد يستمع لصوت زوجته ولا ابنه، ولم يتوقف أصلا ليحاول أن يفهم احتياجاتهما العاطفية، كان يرى أن المكسب المالي وحده هو المهم، مشهد يبدو مكتملا لأسرة عصرية سعيدة لا ينقصها شئ، في حين أنه ينقصها أهم شئ: الحب والفهم. فاز عقل يحيى وانزوت روحه، فكان لابد أن يدخل في التجربة.

ينتقد يحيى زوجته التي لا تزال تهتم وتؤمن بالفن وبالذوق، فقد فقدت روحه بصيرتها، وصار في عالم الواقع بلا دليل، حتى أنه في سبيل طغيانه التجاري، يسخر من قيمة روحانية لدى من يؤمنون بها، ويقرر البطش بصاحب المقام، مدعما وجهة نظره، بأنه لاشئ “تحت القبة”، ومؤكدا انتصاره على القيم التي لا تراها عينه: فلا شئ سوى المادة.

تذهب زوجة يحيى في رحلة يبدو أنها بلا عودة، فلا علاج مادي لها، رغم أن كل المؤشرات الحيوية تعمل بكفاءة، يجد نفسه وحيدا بلا حبها، ووحيدا مع ابنه الذي بخل عليه بوقته وجهده فيما سبق، يقف عاجزا تماما بلا حول ولا قوة ولا فهم.. لكن ثمة فرصة، فالزوجة لم تَمُت، ولا بد أن هناك إجابة عن سؤال يبدو معجزا، ثم تظهر “روح”، حاضرةً بوضوح، لطيفةً بشدة، حازمةً بقوة، مرشدةً له حين بدأ بالاستجابة واختار أن يسير في “الطريق” باحثا عن أمل أو إجابة.. عن دليل.

تنير “روح” يحيى له الطريق، فهو صاحب روح غير ضالة بالأساس، يكتشف الطريق خطوةً خطوة، ومع كل خطوة يجتاز الاختبار فيقترب من الفهم، يعرف نفسه فتنحل العقدة، وتكون المكافأة بأن تعود له الزوجة/الحبيبة/قلبه، ويحصل على الفرصة الثانية، سيكمل حياته لكنه الآن “يفهم”.

أن يخرج هذا الفيلم إلى النور، يعني أن “فهما” كُتِبَ له أن يخرج إلى العلن، كلمات تحمل أكثر مما توحي حروفها، وحوار يُرسَل فقط لمن هو قادر على استقباله، وهذا ما يُسِّرَ للمؤلف إبراهيم عيسى، وهي كتابة لا تخرج إلا عن “تجربة”.

كتابة احتواها إخراج محمد العدل بـ”فهم”، وموسيقى وإضاءة أكملت الحالة الروحانية، شربة ماء في صحراء عالم شرس، لا يحصل على “نفحتها” إلا من “عرف”، وهؤلاء “لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون”.

نرشح لك: مُلخص الكلام عن فيلم صاحب المقام