حاتم حافظ يكتب: صاحب المقام الـ "مختلف عليه"

ليس هناك دليل على النجاح أكبر من أن يتحول موضوع النجاح لمعركة. فما أن عُرض فيلم “صاحب المقام” حتى اندلعت معركة حامية حول الفيلم.

نرشح لك: مُلخص الكلام عن فيلم صاحب المقام

ورغم أن المعركة تبدو في ظاهرها فنية لكن الحقيقة أنها تخفي أكثر مما تظهر. ففي ظني أن مؤلف الفيلم هو الموضوع الحقيقي للمعركة.

إبراهيم عيسى – مؤلف الفيلم – صاحب موقف معلن من الإسلام السياسي بجملته منذ التسعينيات، ولهذا فإن أي نشاط يقوم به يكون عرضة لتربص الإسلاميين، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فلديه موقف معلن منذ عمل بالصحافة من “الحريات والديمقراطية” وهو ما يجعله عرضة أيضا لتربص الملكيين نظرا لوقوفه دائما على يسار السلطة.

ورغم أن موقف الإسلاميين من معركة الفيلم يمكن تبريرها خصوصا وأن الفيلم يتعرض لمسألة تبدو في صلب الخلاف بين الاتجاه الديني الذي يمثله عيسى وبين الاتجاه الذي يمثله الأصوليون، فإن موقف الملكيين بدا مضحكا خصوصا وأنهم بدأوا – بإصرار مثير للإعجاب – في البحث عن أي إشارة سياسية في فيلم غير سياسي.

لكن على أية حال يبدو أن الفيلم غازل كثير من متفرجيه ممن لا ينتمون سياسيا لهذا الفريق أو ذاك، بل وأصاب أهدافا كثيرة في ملعبهم. الفيلم باختصار عن تدوير المعروف. تيمة بسيطة للغاية عن شاب ثري، مادي، جاف المشاعر – حتى مع زوجته وابنه – يتعرض لمحنة بعد مرض غامض يصيب زوجته، وهي المحنة التي تعمل على إيقاف تسارع حياته بإيقاعها اللاهث، ما يؤدي في النهاية لتمكينه من إعادة النظر في حياته كلها. هذه التيمة كان يمكن أن تمر بهدوء لولا أن حبكة الفيلم تماست مع فكرة الإيمان، بل وانحازت للون من الإيمان لا يتفق مع الإسلام السياسي.

يفتتح الفيلم بمشهد بارع إخراجيا على مستوى الصورة. الشاب يحيى يجلس ما بين شخصين يمثل كل منهما اتجاها في علاقته بالإيمان، حتى أنه حين يخلع نظارته ليمسح عدساتها يمكننا رؤية الشخصين كل منهما خلف عدسة من العدستين، كما لو أن ما يمثله أي من الشخصين لا يصلح للرؤية منعزلا عن الآخر.

أو كأن الرؤية نفسها لا تصلح إلا بهما معا. وفي ظني أن كثيرين لم يلتفتوا لهذه العلامة البصرية المبكرة في الفيلم ولهذا فهموا رسالة الفيلم على غير ما يقصدها السيناريو. هذه العلامة المبكرة تقع بنائيا في مشهد يدور حول مقام أحد الأولياء الذي يعترض طريق يحيى في بناء كمبوند. فنرى أحد الشخصين يتبنى رؤية مادية قحة فيحرض يحيى على هدم الضريح/ المقام فيما يتبنى الآخر رؤية أسطورية فيحذر يحيى من هدم المقام.

هنا نكون أمام موقفين متطرفين في رؤيتهما، فإذا استعدنا العلامة السالف ذكرها فهمنا الحيرة التي وقع فيها يحيى، وإن كانت طبيعته الشخصية – كشخص بلا قلب يوصي موظفي شركته بخلع مشاعرهم على باب الشركة – تجعله يتخذ قراره بهدم المقام.

لكن لأن رؤية يحيى المادية لا يمكن التفكير فيها كموقف أيديولوجي صلب فإنه ما أن يتعثر حتى يبدأ في التفكير بطريقة غيبية تخالف ماديته.

الحقيقة لا يمكن فهم هذا الموقف الجديد ليحيى إلا كلحظة توتر تجبره على قراءة علامات حياته بطريقة مختلفة، لكن حتى هذه الطريقة يفككها المؤلف بذكاء في أكثر من موقف منها “سرقة حذائه” في ضريح الحسين، ومنها معرفة أن صندوق النذور تمت سرقته عدة مرات، وكأن المؤلف لا يريد لنا الاستسلام تماما على النحو الذي استسلم به يحيى للعلامات.

ولعل ذلك ما يبرر الحس الكوميدي الذي يستمر طوال الفيلم والذي يقلق راحة المتفرج الراغب في الاندماج.

لكن الحقيقة كل هذا لم يكن ناجحا بما يكفي في الوصول بالمتفرج للغاية التي يريدها الفيلم بسبب كثير من العيوب التي شابت السيناريو، وهي عيوب كثيرة لكن أهمها ظهور شخصية روح/يسرا كشخصية أسطورية، والتي في ظني أنها كانت عقبة كبيرة في سيناريو كان يمكن أن يصبح جيدا لو لم يكن هناك تعجل واضح في كتابته.

تظهر روح بلا مقدمات في فضاء المستشفى. ويحيل اسمها بالطبع لدلالة مباشرة أكثر مما ينبغي، خصوصا حين يسأل يحيى إحدى الممرضات عنها فتخبره أنها موجودة هنا منذ الأزل، وأن كل العاملين في المستشفى جاءوا فوجدوها. هذه العلامة كانت مربكة للغاية لأنها أضفت على الفيلم – الذي حاول أن يكون محايدا في الاستسلام للعلامات – علامة روحانية لا فكاك منها، خصوصا وأن روح بدأت في الظهور ليحيى في كل مكان يذهب إليه. هذا الظهور ذا الطابع الأسطوري كان يمكن أن يتم تحديد إقامته لو أنها ظهرت ليحيى فقط خارج المستشفى فحينها كان يمكن قراءة وجودها كعلامة متخيلة فرضها تحول يحيى لقراءة العالم كإشارات، لكن ظهورها داخل المستشفى مرة في زي طبيبة ومرة في زي الأمن ومرة كعاملة أجبرنا كمتفرجين على قبولها كشخصية أسطورية حقيقية وليس كشخصية أسطورية في مخيلة يحيى.

 

نرشح لك: مخرج “صاحب المقام”: دور يسرا أهم دور في السينما المصرية

 

هذا الحضور أفسد – في رأيي – العلامة الافتتاحية، كما أفسد النهاية غير المتوقعة في نهاية الفيلم حين نكتشف أن زوجة يحيى ظلت في غيبوبة طواعية بنصيحة من روح لاستعادة يحيى.

بمعنى أن المشهد النهائي بطبيعته الواقعية كان مربكا للحضور الأسطوري للشخصية طوال الفيلم.

وأظن أن اكتشاف روح كشخصية واقعية في نهاية الفيلم كان يمكن قبوله لو أن ظهورها الأسطوري كان مقتصرا على خارج المستشفى، أو لو أن يحيى كان الوحيد الذي يمكنه رؤية روح.

ومع هذا لا أظن الفيلم ينتصر للرؤية الغيبية التي استنتجها كثير من المتفرجين لو أننا فكرنا فقط في روح كشخصية متوهمة. لأن مرض زوجة يحيى لم يكن مرتبطا بهدم المقام ولأن شفائها لم يكن مرتبطا بمصالحة صاحب المقام ولكنه كان من الأساس مجرد مصادفة استغلتها الزوجة بعد نصيحة من روح.

ووفق هذا التصور فإن كل الأحداث التي تلت هدم المقام لن تكون غير مصادفات اعتبرها يحيى – تحت تأثير الوهم – كعلامات أو إشارات وبدأ في قراءتها.

وحتى إعادة تمرير المعروف المتمثل في تنفيذ مطالب المتعلقين بشفاعة الإمام الشافعي لن تكون أكثر من رحلة كبحت جموح يحيى المادي. فبفضل الرحلة تمكن يحيى من اكتشاف محبته لزوجته وتمكن من قضاء وقته مع ابنه، وبفضلها تمكن من معرفة أن العالم ينبض بالحياة خارج حدود قوقعته.

لهذا فلا أظن أن هجوم الإسلاميين على الفيلم باعتباره يدعم الرؤية الغيبية التي يتوسل بها العوام لتوسيط الأئمة بينهم وبين الله هجوم في محله، رغم أن الفيلم ينتهي بإعادة بناء المقام. ففي ظني أن الفيلم ينتصر لفكرة الإيمان نفسها كفكرة لا بديل عنها لاستمرار الحياة ولتنقية الروح الإنسانية الساعية دون هوادة لهدم العالم من أجل المصلحة المادية.

ذلك أن إعادة بناء المقام لا يلغي وجود الكمبوند. كما لو أن الرسالة التي يود الفيلم طرحها هي إمكانية التعايش بين المصلحة/الكمبوند وبين الإيمان/المقام، وهو ما يحيلنا للعلامة الافتتاحية كعلامة مفتاحية لقراءة رسالة الفيلم. وهو ما يبرر المصالحة التي تمت بين يحيى وزوجته رغم اعترافها بالخدعة التي حاكتها ضد يحيى.

على أية حال أظن أن المخرج محمد العدل كان له الفضل الأكبر – مع التمثيل – في إنقاذ الفيلم وفي معالجة كثير من مشاكل السيناريو. فمن ناحية تمكن بالصورة من دعم كل رسائل الفيلم، ففي مشهد الذكر فوق أحد أسطح العمارات استخدم الدرون ليحول صورة المدينة إلى ما يشبه الفضاء السماوي، حتى أن أضواء المدينة بدت في نهاية حركة الكاميرا كنجوم لامعة في سماء مظلمة. ومن ناحية حافظ على إيقاع متوازن أضاف حيوية على فيلم ذي موضوع مربك، ومن ناحية نجح في إضفاء حس كوميدي على دراما مؤسسة على موقف مأساوي/مرض زوجة يحيى.

ومن ناحية تمكن من تصوير كثير من الأحياء الشعبية والأضرحة التي شكلت الفضاء الأصلي للدراما، فبدت في تناقضها مع فضاء القصر الذي يعيش فيه يحيى أو فضاء شركته المصنوع اللامع كما لو أنها العالم السفلي أو الباطني للمدينة.

ساعده في ذلك كم من النجوم الذي ظهر كل منهم في قصته كنجم، كإبراهيم نصر ومحمود عبد المغني. وبالطبع آسر ياسين الذي يثبت يوما بعد يوم أنه أحد أفضل ممثلي جيله وأكثرهم حضورا ولمعانا.

تبقى نقطة أخيرة تتعلق باتهام عيسى بسرقة فكرة الفيلم من الفيلم الإسرائيلي “مكتوب” الذي انتجته نتفلكس قبل ثلاث سنوات.

الحقيقة حين شاهدت صاحب المقام لم أكن قد شاهدت الفيلم الإسرائيلي ولهذا استدعت ذاكرتي أفلاما أخرى مثل seven pounds للنجم ويل سميث، وفيلم city of angels للنجمين نيكولاس كيدج وميج رايان، وذلك على مستوى التيمة، لكن بعد مشاهدة الفيلم الاسرائيلي لا يسعني غير ترجيح أن يكون عيسى قد اطلع على الفيلم الإسرائيلي.

وفي النهاية فيلم صاحب المقام فيلم جيد عابه التعجل وارتباك علامات السيناريو والحذلقة في بعض الأحيان.