10 دقائق و38 ثانية.. ماذا يفعل بنا الزمن بعد الموت؟

أحمد جمال

ترتبط إليف شافاك باسطنبول ارتباط شديد، يذكرنا بارتباط محفوظ بالقاهرة أو بول أوستر بنيويورك أو هيمنغواي بباريس أو حتى مواطنها باموق وما كتبه عن مدينته اسطنبول من أرق وأجمل ما قرأت، ولكن شافاك تقدم مدينتها بشكل مختلف، فهي تتعمد أن تنبش ذاكرتها، وتعترف بنواقصها، وتتتبّع مصير الضعيف فيها، وكيف أن هذه المدينة تسحق كل وافد إليها أحيانا، كلٌ بشكل مختلف، اسطنبول شافاك تقف ككل مدينة صاخبة ساخطة على ضياع تاريخها ومكانتها، فتنتقم من كل شخص انتقاما مميزً.

نرشح لك: مصطفى حمدي: ركزت على الجوانب الإنسانية والموسيقية في “مذكرات هاني شنودة”


هذا مدخل مهم لفهم ما تكتبه شافاك، إنها تستنطق المكان قبل أن تجعل أبطالها ينطقون، فتجد نفسك في وسط هذا المكان، مستعد أتم الاستعداد للاندماج مع ما ستبوح به شخصيات الرواية، والتي تستحق الاحتفاء بها، وتتفوق كثيرا على ما سبق وكتبته، ففي روايتها الجديدة “10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب”، والتي صدرت ترجمتها العربية عن دار الآداب، بتوقيع محمد درويش، وصدرت بطبعة مصرية عن مكتبة تنمية، نجد شافاك روائية مقتدرة، متحكمة في رتم روايتها وتناغمها مع بعضها البعض، تسترجع تاريخا قاسيا لحياة شعبها، لتقدم منه درسا وحكمة للأجيال الجديدة، لا تقف عند خطوط حمراء، فإن أرادت أن تُذكر العالم بمذابح الأرمن لم تخف من السجن في وطنها الأم، وإن أرادت استعادة تاريخ مذابح الشيوعين واليسار في الشوارع كتبت كل ما سُكت عنه، وإن أرادت هدم أسطورة الأمجاد العثمانية، وتاريخ خلافتهم، لم تخش على نفسها من هجوم المتطرفين عليها، كل ذلك بقلم صادق حيوي، مؤمن بما يكتب.

للكاتبة ذاكرة حديدية بخصوص التفاصيل، فمن المستحيل أن تكتب كل هذا التناغم الأدبي ما بين مجموعة من الاساطير الشعبية في حياة كل مجتمع، وتدمجها بشخصيات حية تتنوع ميولهم واتجاهاتهم وعقائدهم، بدون ذاكرة قادرة على استدعاء الزمن نفسه ليكون شاهدا على الحدث، ومن هنا أتت فكرة الرواية، عما يفعله الزمن بنا بعد أن نموت؟ ومنحه لنا هدنة قصيرة لالتقاط الأنفاس، ونعيد سرد حياتنا كما حدثت، ليتضح لنا أنه لا وجود لحياة عادية، لكل منا حياته الفريدة في حد ذاتها، وندمج حياتنا مع حياة من نحب وخاصة الأصدقاء، لننسج حياة للعالم الذي نريد أن نعيشه، وبهذا تمر الأيام والسنون.

تدور الحياة حول ليلى تيكيلا، عاهرة مسكينة مسحوقة تحت حطام اسطنبول، والتي بمجرد أن وطأت أرضها ابتلعتها المدينة بكل سهولة، لتدع القدر يقرر، ولكن حياة ليلى لم تكن بسيطة أو سهلة، فقد كوّنت من الأصدقاء مجموعة من المضطهدين مثلها، والذي حكمت اسطنبول على كل واحد منهم بالنفي، فلم يبق لهم إلا بعضهم البعض، مجموعة شديدة الاختلاف، من قزمة لمتحولة جنسيا لمطربة فاشلة، كل هؤلاء وقفوا معا ضد العالم، وفجأة اعتصر الألم قلوبهم لفقدانهم ليلى، من وحّدت بين قلوبهم وجمعتهم معا، ودائما للمضطَهد رؤيته الخاصة للعالم، فقد شاهد وتعرض للكثير من الظلم، والذي يجعله مرآة شديدة الصدق لكل انتهاك لحق البشر في الاختلاف، وحرية اختيار مصائر حياتهم، بدون أن يضطروا لحروب طويلة يتنازلون عن حريتهم تحت كثير من الضغوط، وفي النهاية تتركهم الحياة أجساد ميتة لأرواح كافحت كثيرا من أجل حريتها.

10 دقائق و38 ثانية: مدة متخيلة للعقل بعد مفارقة الروح للجسد، مدة أكثر من كافية للعقل البشري أن يستعيد كل ذكريات حياته، ويعيد اكتشافها من جديد، مدة يعجز فيها اللسان عن النطق نعم، ولكن العقل يظل في حوار مع صاحبه.

رواية ممتازة، شديدة الجمال، لها فتنتها الخاصة، وواقعيتها السحرية الخلّابة، وصدق الحكي المتدفق، والذي تشعر أمامه أنك جالس بجانب الكاتبة تقص عليك قصصها.