صناعة المسلسلات في مصر (4).. هل كان "الجماعة" نقطة مفصلية للصناعة؟

إياد صالح

تم افتتاح التلفزيون المصري في 21 يوليو سنة 1960، وعندما تبحث عن أول مسلسل تم عرضه سوف تجد أن المعلومات ضبابية ومتضاربة. تقول مجلة “الإذاعة والتلفزيون” أنه عُرض تمثيلية بعنوان “هروب” من بطولة زهرة العلا وإخراج محمود السباع، وكانت مدتها نصف ساعة، وتم وصفها بأنها “تمثيلية” حيث إن هذا النوع من الفن كان جديدا على جمهور يعرف فقط السينما والمسرح.

نرشح لك: رمضان 2010 “نهاية وبداية”.. صناعة المسلسلات في مصر (1)


لكن في عام 1961 عرض التلفزيون مسلسل بإسم “الخاتم الماسي” من إخراج يوسف مرزوق وبطولة نور الدمرداش، وعبدالرحمن أبوزهرة، وكان عدد حلقاته 7 فقط. وإذا قمت بعمل بحث سريع علي الإنترنت عن أول مسلسل مصري ستجد أن الإجابة هي مسلسل “هارب من الأيام ” والذي عرض عام  1963 من  بطولة عبد الله غيث، وسناء جميل عن قصة ثروت أباظة، وسيناريو وحوار فيصل ندا، من إخراج نور الدمرداش، وكان الجميع وقتها يجتمع لمشاهدة حلقاته، وتخلو الشوارع وقت عرضه، وكان له تتر بداية أغنية، وعدد حلقاته 13 حلقة.

أذكر لك تلك المقدمة لتوضيح أنه سيظل هناك دائما خلاف حول تحديد بعض الأمور التي ترتبط بالعمل الفني؛ وذلك نتيجة للخلاف حول السؤال نفسه، فقد يقول أحد أن “هروب” لم يكن مسلسل بل كانت تمثيلية مثل السهرات التلفزيونية، ويقول آخر أن “الخاتم الماسي” ليس أول مسلسل بل هي “سباعية”، وينحاز ثالث ويقول أن “هارب من الأيام” هو أول مسلسل لأنه أسس لشكل ثابت لما هو المسلسل وبناء عليه تطورت صناعة المسلسلات بعد ذلك.

وبالعودة للسنوات التي نتحدث عنها فيما بين عام “2000 و 2020” وكيف تطورت صناعة المسلسلات المصرية، كان السؤال الذي انتهينا عنده في الجزء السابق كيف اختلفت الدراما المصرية في عام 2010.

فكما ذكرت أن عام 2010 كان عاما استثنائيا، قدم فيه أكثر من 50 مسلسل وقدمهم نجوم ومخرجين ومؤلفين من كل أجيال صناعة المسلسلات، إلا أن هناك عمل أسس للنقلة التالية في صناعة المسلسل المصري، وهو مسلسل “الجماعة 1” للمخرج محمد ياسين.

نرشح لك: يحيى الفخراني – يسرا “معايير قياسية”.. صناعة المسلسلات في مصر (2)


ودعنا هنا نستبعد كل العوامل المرتبطة بقصة المسلسل، والأخبار، والنقاشات التي دارت حول المسلسل وهل كان المسلسل لأغراض سياسية.. وهل ساهم في الترويج لحسن البنا.. وكل ما صاحب العمل من خلافات، ونتحدث لماذا كان “نقلة” في صناعة المسلسلات المصرية “وتذكر دائمًا إننا نتحدث عن مسلسل مر على عرضه 10 أعوام كاملة”

مصدر ذلك الاختلاف أن الجماعة كان يحمل العديد من المواصفات التي جعلته يختلف، فالعمل كُتب بمعزل من حالة النجم التي كانت تسيطر علي سوق الصناعة، فلم يكتب العمل لأن هناك نجم كبير تحمس أن يقدم شخصية حسن البنا وبحث عن كاتب يكتبه له، بل إن اختيار “إياد نصار” ليقوم بدور البطولة لم يكن اختيار مفيد تسويقيا للعمل، وكذلك لم يكن الدور لبطل كما يقال “من الجلده للجلده”.

كذلك طريقة سرد المسلسل بين زمنين حيث يبدأ في عام 2006 بالعرض العسكري في جامعة الأزهر ثم يعود لعام 1912 في طفولة حسن البنا وينتقل بين الزمنين حتي عام 1949 بحادث الاغتيال، ليست الطريقة المفضلة أو المضمونة لنجاح المسلسل الرمضاني، ولـ أوضح ذلك قال لي أحد النجوم أن المسلسل الناجح هو المسلسل الذي تستطيع ست البيت أن تسمعه وهي في المطبخ والتلفزيون في الصالة وتفهم كل شيئ.


وهنا نصل للعنصر الأهم وهو طريقة الإخراج، واللغة البصرية للسرد، وهو ما يرتبط بمخرج العمل “محمد ياسين” والفريق الذي عمل معه في هذا المسلسل ومنهم “وائل درويش مدير التصوير- انسي أبوسيف مهندس الديكور، دينا فاروق المونتيرة”

فالمخرج ومن معه قدموا لغة بصرية يمكن وصفها بنفس المغالطة التي وصفت بها الصحف وقتها المسلسل وقالت: “الجماعة مسلسل سينمائي” وهو ما كان يقصد به أنهم شعروا أنهم يشاهدوا فيلما سينمائيا وليس مسلسلا تلفزيونيا وهو تعبير تأتي مغالطته من تأكيد أن المسلسل هو درجة أدني من الفيلم ويسعي أن يصل لها، وذلك بمنطق أن المسلسل يجب أن يتم تصويره بطريقة رتيبه تعتمد على أن نرى المشهد لقطة واسعة للممثلين ثم لقطات ضيقة متوالية للحوار، وينتهي المشهد، وسيقف الممثلين لدقائق طويلة يتحدثوا بينما الكاميرا تقترب وتبتعد عنهم وكأنهم علي خشبة المسرح والكاميرات هي الجمهور، وهو نمط ظل لسنوات يسود صناعة المسلسلات المصرية، ولكن العالم كان قد تغير ولم تعد تلك الطريقة موجودة في كل مسلسلات العالم.

ذلك الإختلاف في اللغة البصرية للجماعة “والتي ستصبح بعد ذلك هي القاعدة” أن هناك اهتمام بالمكان والمشاعر، والأحداث داخل المشهد، وكذلك أن يكون لزاوية التصوير، وأحجام اللقطات دلالة في سرد القصة والحكاية، مثل المشهد الذي قدمه الفنان أحمد حلمي كضيف شرف في المسلسل، – وتناقله الناس بسبب حواره مع وكيل النيابة “حسن الرداد” والقصيدة التي القاها في المشهد للشاعر الراحل ميدو زهير- فإن طريقة تصويره ومونتاجه ليست الطريقة التي اعتدت أن تراها في مسلسل تلفزيوني يعرض في رمضان.

وعلى ذكر مشهد “أحمد حلمي” فقد جاء الجماعة ليقدم شئ لم يكن سائد في وقتها وهو أن يظهر الكثير من النجوم في المسلسل في مشاهد قليلة أو في مشهد واحد، وهي فكرة لم يبتكرها مسلسل الجماعة، ولكن الفارق أن مشاهد ضيوف الشرف كانت مشاهد بها قدر من التمثيل وليس ظهور من أجل الظهور، واحيانا كانت مشاهد تحرك الأحداث “راجع ظهور كريم عبد العزيز في مشهد بالمسلسل يخطب فيه في الناس في أحد الحدائق”

ولإدراك فكرة أن المسلسل قد صنع فارقا ليس فقط أمام صناع المسلسلات ولكن أيضا مع الجمهور الذي ظل لفترة يتحدث عن مشهد النهاية والذي اشتهرت منه جملة “لذلك خلق الله الندم” وحديث الناس علي مواقع التواصل الاجتماعي عن أداء إياد نصار، ودلالة مشهد إمساكه بكوب الماء وسكبه وكيف تسرب من يده ليوحي لك كيف فقد السيطرة علي الجماعة.

بالطبع كان ظهور عدد ضخم من الممثلين، وكثير منهم نجوم وأبطال من أجيال مختلفة يرجع لضخامة إنتاج المسلسل، كذلك لأنه من كتابة وحيد حامد، لكن كان لذلك تأثير مهم علي الصناعة حيث كان ومازال الكثير من النجوم وخاصة نجوم السينما ينظروا للمسلسلات علي أنها درجة أدنى وأقل، ولكن بعد “الجماعة” وردود أفعال الجمهور بدأ يحدث اختلاف في علاقة النجوم بالتلفزيون.

ومن الواضح أن المخرج محمد ياسين، كان لديه منذ اللحظة الأولى للعمل رغبة وعمدية فنية، أن يتعامل مع المسلسل التفزيوني بطريقة مختلفة، هو يعلم جيدا أنه ليس فيلم مدته ساعتين، ولكن المسلسل فن يستحق الإهتمام والعناية بكل عناصره خاضة أن الجمهور لم يعد بنفس البساطة في تقبل الشكل القديم، والإنترنت والمنتديات بدأت في تغيير الجيل الصغير، وادراك أن وحدة المسلسل هي “الحلقة” وأن كل حلقة يجب أن يكون لها قوام فني وحدث وبداية ونهاية.

وكذلك عنصر هام كان مفتقدا بين الصناع أنفسهم فـ بالرغم أننا تحدثنا عن أن كثير من مخرجي السينما اتجهوا للعمل في المسلسلات إلا أن هناك أسطورة أقرب للقاعدة العلمية، وهي أن “الأفلام” تبقي في التاريخ، لكن المسلسلات تنسى، والحقيقة أن المسلسلات المتميزة لاتنسى مثل الأفلام المتميزة، والردئ أو الناجح بشكل لحظي سواء كان مسلسل أو فيلم بالتأكيد سينسى.

نرشح لك: هل كانت الأزمة في الكاميرا الواحدة؟.. صناعة المسلسلات في مصر (3)


تلك “العمدية” هي ما تجعلني أذكر لك “الجماعة” كـ نقطة مفصلية في صناعة المسلسلات؛ لأنك إذا بحثت عن الإعلان الترويجي الخاص بالمسلسل، وشاهدته اليوم ونحن في 2020 ستكتشف أنه يصلح أن يعرض الآن كـ برومو لمسلسل جديد بالرغم من مرور 10 سنوات.

ولكن هل كان “الجماعة” و”محمد ياسين” فقط هما من صنعا الفارق في صناعة الدراما في بداية هذا العقد وجعلا صناعة المسلسلات تأخذ منحى آخر في السنوات اللاحقة، سيرجعنا ذلك لما بدأنا به هذا الموضوع، أننا سنختلف دائمًا على من هو “الأول” خاصة إنه من المؤكد أن هناك آخرين قدموا ما ساهم في أحداث الفارق ….وبالرغم من كل ماسبق ..لم يكن “الجماعة ” يغرد وحيدا بل كان هناك عاملين آخرين ومخرجين آخرين قدموا في نفس العام تجارب ساهمت في أحداث ذلك الفارق …وللحديث بقية.