يوميات طفل ريفي (3).. إيه اللي يعدي البحر ولا يغرق؟!

عبد البصير حسن

اتذكر جيدا تلك التقسيمة الدقيقة طولا وعرضا، لمساحة الحقل الذي دوامت نزوله طفلا لسنوات طويلة، لزراعة الفاصوليا وجمعها وغيرها من الخضروات.

بمفردات قريتنا يقسَّم الحقل عند زراعة الفاصوليا عادة إلى “قَنايات” وطولها نحو عشرين مترا، وتقسَّم القَناية الواحدة إلى ” فَرْدتين (جمع فَرْدَة)” على جانبي ” الفَحْل” أو المجرى الداخلي، وهو بقطر نصف متر تقريبا يزيد قليلا أو ينقص، الذي ينقل الماء من “المِسْقى” أو “الترعة” الرئيسية إلى تقسيمات الحقل.

ويلزم زراعة بذور الفاصوليا أن تكون الأرض لدنة تسمح بشقها بالفأس بسهولة.. ويمسك بالفأس عادة فلاح بالغ ماهر ويتولى صبي أو صبية تسكين البذور كحبات “السِبحة” وراءه، ويعود الفلاح بإعاده الخط إلى وضعه السابق بإعادة الردم بالفأس بعد نثر البذور.

اتذكر عم  سعد أبو بكر من بين عشرات أمسكوا بالفأس، وركضت وراءهم نثرا لبذور الفاصوليا وكان عفيا مشهود له بالقوة والجلد والعمل لساعات طويلة.. لكن ما كان يميز عم سعد دون غيره من الفلاحين الأُجرية هو تلك الروح العالية من الدعابة، كان عم سعد كثير الضحك كثير النكات كثير التفكه والمزاح على حاله وحال أقرانه الذين يسبقهم بمسافة في شق الخط.. استمرت روح الفكاهة مع عم سعد الذي لم يكن يملك سوى ساعديه لكسب قوت يومه لا شئ آخر، لكنه امتلك بشاشة وقبولا وعافية ورضا وجلدا جعلته نجم الفلاحين الأُجرية الذين كان أصحاب الأرض يتبارون لحجزه سلفا، ليكون في حقلهم زراعة أو جنيا.

أتذكر كم كان الرجل حريصا وأنا الصبي المرافق له في الخط عادة، على ألا يسمعني أي مفردة لا يود أن يسمعها أبناؤه، وكنت إذا تأخرت عنه قليلا يبطئ من خطواته حتى لا تكون هناك فجوة كبيرة تكشف عن ضعف أو تعب من جانبي، فأكون محل مزاح الصبية الآخرين في الحقل معي.. كان عم سعد وقورا لا يخرج من فمه رغم شخصه المازح ما تتأذى منه مسامع الحاضرين.. كان مزاحا راقيا لا تنابذ ولا سباب ولا تجريح أو إهانة ولا تحقير أو تسفيه أو غلظة.

كنا نتوقف جميعا عندما يحين وقت أذان الظهر للصلاة وللغداء ولقيلولة بسيطة، قبل استئناف حصة العمل حتى الانتهاء منها، كانت تلك الاستراحة الأكثر إفادة، حيث كان الجميع يلتقى على غداء بسيط عادة وُضع في “قطعة قماش مميزة مخططة لا زلت اتذكر لونها وتصميمها”، قادمة من منزل صاحب الأرض ملفوف فيها الغداء بحسب كرم أهل البيت وجاهزيتهم.

كان أصحاب الأملاك من رموز القرية وجميعهم في الأصل مزراعون، يدعون بعضهم بعضا من باقي الحقول المجاورة للانضمام وتناول ما يتاح من الطعام وشرب الشاي مع الفلاحين الأجرية، ونحن حولهم، وإن بدا الطعام بسيطا وقليلا، لكنه كان يكفي ويزيد.

كنا نسمع نحن الصبية كيف يتناول ”الكبار“ المشكلات ويتفقون على حلها،  سيما العويصة منها، مثلا بين زوج وزجته غاضبين أو منفصلين وكيف يجمعونهما مجددا في بيتهما، كيف يصلحون بين شقيقين متخاصمين أو أبناء عمومة، ويحددودن ما يمكن إلزام الطرفين المتخاصمين به إذا كانت الخصومة كبيرة ومتجاوزة للعائلة الواحدة، يتحدثون عن أداء خطيب الجمعة وما اذا كان أحسن أو لم يكن مفيدا، يتساءلون عن المريض الغائب عن الأنظار وعن بناء مقبرة مشتركة للعائلة، أو تجميع أموال تبرعات لعمل خيري في القرية، وعن الاستعداد لحج بيت الله العام المقبل أو أسعار البذور والأسمدة… إلخ.. كانوا دوما يتحدثون فيما ينفعهم وغيرهم.

ولكن الجد لم يكن كل الجلسة، فأحيانا كثيرة كان السمر يأخذ حيزا، وكانت أسئلة “الفوازير وحل الألغاز” لها باع من واقع تراث ثقافي طويل وعميق، اعتادوا عليها أيام طفولتهم وشبابهم، كانوا يتحاكون مازحين عن “المارد والعفريت” الذي ظهر لفلان هنا أو هنا في الظلام..

وفي هذا السياق، كنت أحظى باهتمام خاص من الحاج محمود أبو عطية أحد كبار قريتنا وصاحب أملاك في حينه، كان لديه علم بتفوقي الدراسي وكنت لا زلت في المرحلة الابتدائية، فكان يخاطبني بكل ود وتقدير أمام الجميع ويوجه لي جملة من الأسئلة المعلوماتية جلها ذات صبغة دينية قرآنا وسنة، واتذكر سؤاله بل وهيئته وقتها عندما سألني مرة ” ماهي عروس القرأن؟” وأجبته وكان ممنونا، وأخرج من جيبه قطعة نقود من قرشين (مية فضة) وأعطاها لي مبتهجا، بالإضافة إلى تلك الألغاز التي تحتاج ذكاء، واتذكر لغزا شهيرا منها وهو “ايه اللي يعدي البحر وما يغرقش؟” الإجابة في نهاية هذا السرد..

في القرى في ذلك الحين، كان التلميذ المتفوق ذائع الصيت، لأن إلحاق الأبناء بالمدرسة في ذلك الحين كان للفاهمين إلى حد كبير.. أبي رحمه الله كان من الفاهمين.

كان الفارق بين حقل الحاج محمود وعم فؤاد دميان، هو مسقى أو قناة مائية تسقى مئات الأفدنة.. رباط الماء من هذا القبيل أظنه كان الشريان الذي كان يربط أهل القرية في الأيام الخوالي، كان لا بد من التعاون والتنسيق والتسامح والمبادلة والمقايضة والتراحم والتواد والتواصل والعفو وجبر الخواطر والتماس الأعذار والتراحم.. وكل هذه الصفات النبيلة لأن هناك مجرى ماء مشترك يروي أرض الجميع، والجميع يحتاج بعضه بعضا ليل نهار في تسوية حقل أو جمع محصول أو تصريف ماء زائد أو نقل سماد أو تفريغ أحمال أو دعم في الظلام أثناء المناوبات على ري الأرض، ناهيك عن التلاصق المكاني في الشارع والحاجة إلى الغوث وقت الحاجة، سيما في قرى نائية لا يغيثها وقت الحاجة إلا أهلها، والجار  في الحقل أو البيت كان أولي بالشفعة.

هؤلاء الناس كانوا لا يحتاجون إلى “حكومة” تضبط إيقاع حياتهم، فهم ضبطوها منذ الأزل بأدبياتهم وقواعدهم التي قامت على التراحم، دون تمييز على أساس طائفة أو لون أو عرق أو فئة اجتماعية أو وظيفة أو مهنة أو أو أو من تلك الآفات التي يتمايز لها البشر الآن.

هم لم ينتظروا من الحكومة (ممثلة في شرطة أو إدارة محلية أو عضو مجلس نواب أو أو ..) أن تحل لهم مشكلاتهم أو تعينهم على قضاء حوائجهم.. لم يشتكوا إلا لله.. لم يتزلفوا إلى صاحب جاه أو سلطان، فامتكلوا من القيم ما لم يمتلكه غيرهم، فعاشوا كراما أعزة.

توفي الحاج محمود أبو عطية منذ ما يزيد عن ثلاثين عاما، وتبعه في سنوات قليلة رموز القرية أمثاله، وتسلم الراية جيل ثانٍ أقل قدرة على الإمساك بالزمام، لأن جيلا جديدا من أبناء القرية لم يعد يرتبط بالأرض بعدما بحث عن مورد رزق آخر، فسافر أو غادر أو التحق بمصنع أو شركة أو ورشة، وصار له راتب منفصل من مصدر مستقل، مكّنه من الاكتفاء بموارده الذاتية في تلبية احتياجاته الحياتية، دون حاجة لجار في حقل أو بيت شقيق وقريب أو جار، ومنذ ذلك الحين لم تعد الأمور كما كانت..

توفي عم سعد المسن الذي لم يفقد نقاءه يوما، قبل شهور في نهاية 2018، بعدما سقط من على حماره ولم يجد مالا كافيا يذهب به لطبيب فاهم ومتخصص يساعده في اكتشاف أن عظمة خطيرة في رقبته كسرت.. توفي عم سعد وكان آخر الفلاحين في مخيلتي الذين عشقوا الأرض،  فأبناء عم سعد تركوا الأرض والمهنة، بعدما تضائلت مساحتها وضنت عليهم بخيراتها؛ عندما أهملوها وفشلوا في إقناعها بأنهم عشقوها كما كان يعشقها أبوهم الراحل.

** إجابة اللغز.. “العجل في بطن أمه” (ما تحمله البقرة العشار في بطنها).

نرشح لك: عن الفن والسياسة.. أم كلثوم تسأل و”هيكل” يجيب

شاهد: يوم مش عادي في ضيافة الإعلامية رنا عرفة

عبد البصير حسن عبد البصير حسن عبد البصير حسن عبد البصير حسن عبد البصير حسن عبد البصير حسن عبد البصير حسن