يوميات طفل ريفي (2).. بطاطس الحاج فؤاد دميان

يوميات طفل ريفي

عبد البصير حسن

اتذكر جيدا شعوري كطفل ثم كصبي بالسعادة الغامرة، عندما كان يمر علينا فايز أو سامح أو شوقي أبناء عم “فؤاد أبو دميان” (المرحوم بإذن الخالق حاليا)؛ لحجزنا أنا وشقيقاي الأكبر مني، وبجزء من الأجرة مقدما، للعمل في حقلهم في اليوم التالي أو الذي بعده، سيما في أوقات جني محصول البطاطس في عروتها الشتوية.

في بعض الأحيان وكنا صغارا، على فطرتنا وفطرة آبائنا وأجدادنا، كنا نقول لبعضنا البعض ببهجة وسرور أيضا: ”أنا شغال بكرة عند الحاج فؤاد أبو دميان.. نعم كنا نقولها كذلك أطفالا ”الحاج “، وآخر يقول: ”أنا شغال بكرة والأسبوع كله عند الشيخ فؤاد أبو دميان“.

في قريتنا كان لا بد وأن نسبق اسم ” الكبير ” بلقب عم أو خال أو جد أو الشيخ أو الحاج أو أبو فلان.. لم تكن تسربت بعد إلى طفولتنا ما تسرب إليها في شبابنا على يد ”أغراب عن طين قريتنا“ حلوا علينا، وإن كانوا من نفس القرية أو قرى مجاورة.(**)

كان عم فؤاد الأكرم في التعامل معنا نحن الصبية والصبايا المشتغلين في حقله، كان العمل في حقله منظما إلى حد كبير، لا أحمال أضافية وموعد ثابت ومحترم لتناول وجبة الافطار وقت الضحى، دون ممارسة أي ضغط للانتهاء منها سريعا، وكانت وجبة غنية مقارنة بوجبات كانت تأتينا في حقول أخرى، عند آخرين من أصحاب الأملاك في القرية.

إفطار عم فؤاد كان يُحضَّر بعناية في المنزل، وبه الفول المخدوم جيدا وحلوى طحينية وكشك مخلوط بالبيض أحيانا، وطعمية وخبز طري طازج، يتبعها أكواب شاى لا يُستثنى منها نحن الأطفال بعد الرجال الكبار الذين نعمل وراءهم.. تماما كما كان الحال في منازلنا ومنزل عم فؤاد، لا فرق بين بيت وحقل أو صاحب ملك وعامل لديه في حقول أخرى، كانت الجبنة القديمة والشرش والكشك المبلول بالماء مع خبز ملدن جاف أو عيش بتاو، ويحظر الشاي للصغار لضيق الوقت وإلحاح صاحب الحقل.

هذا إذا كان العمل من السادسة أو السابعة صباحا وحتى الظهيرة، أما إذا كان العمل سيمتد لدى عم فؤاد لما بعد العصر، فهناك وجبة ساخنة مطبوخة مصحوبة مدعومة بـ ”الزفر – لحم أو دجاج“ (هههه) مع نصف أجرة يوم إضافية في نهاية اليوم، آخرون كانوا لا يهتمون بالوجبة الساخنة ويتكرر ما جاء في الإفطار، ولا أجرة إضافية في معظم الأحيان إلا إذا امتد العمل لأذان المغرب، وكان كثيرون غيره يحرصون ألا نبقى حتى وقت أذان المغرب كي لا تحتسب تلك الإضافة.

في نهاية جمع المحصول يوميا، كان عم فؤاد يطلب منا التجول في الأرض بعد جني المحصول منها، ونجمع لأنفسنا أي حبات بطاطس ربما اختفت أثناء مرور المحراث أو أثناء تحميل ونقل البطاطس إلى الأجولة.

كنا نجمع الكثير وتمتلئ “الغلقان” فيتركها لنا لبيوتنا بكل ود وحرية، ومن لم يستطع جمع ما يملأ الغلق كان يكمله من أفضل ما لديه من الأجولة المتراصة.. غيره كان من الأساس لا يسمح ببقاء أي حبات بطاطس في الأرض، ويمر مرة ومرات طوال اليوم ليتحقق من أنه لا حبة واحدة مختفية، فإذا سمح لنا في نهاية اليوم بالبحث عن حبات نأخذها مجانا لمنازلنا؛ كانت الحبات المعوجة أو الرفيعة أو المخضرة، ولا زيادة عليها من الفرز الأول الذي وضعه في الأجولة أو لعائلته، اللهم من كان كريما بما يكفي لوضع كيلو أو اثنين من الجيدة، في حين كنا نملأ الغلقان حتى تتبعثر ونأخذ في حجرنا ما يفيض من حقل عم فؤاد بكل كرم وارتياح.

اعتاد عم فؤاد أن يجلس في المساء في ”دكان“ عم ”حبشي“، بصحبة كوكبة من كبار حجيج ومشايخ وكبار القرية، الذين نشأوا وتربوا معا في شارعين أو ثلاثة متلاصقين، هي حجم القرية في صباهم وشبابهم حتما وقبل أن تتمدد لاحقا، لم تكن الكهرباء بعد ولجت القرية في هذه السنوات البعيدة نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وكانت ”لمبات الجاز“ توضع في ركن بالدكان مساء كل ليلة، بينما يتحولق علية القرية وفي القلب منهم عم فؤاد وعم حبشي والحاج محمود والحاج كامل والحاج عبد الغني والحاج عبدالحميد والحاج.. و و و و صيفا، وفي الشتاء يتحولقون حول مدفأة من الفخار مُلئت رمادا،  وتُرك عليها ”براد“ الشاي ممتلئا ليحتسي منه من يريد؛ طيلة الجلسة الدافئة بأحاديثها ونقاشاتها الأدفأ.. ربما أحضر أحدهم بعض تمر مجفف وبعض خبر بتاو للاستفادة من مذاقهما الرائع بعد تسخينهما على ما تبقى من جمر بالمدفأة العتيقة.

اتذكر أن آخر يوم عمل لي في حقل وأنا في السنة الرابعة بالجامعة، كان في غيط عم فؤاد بعد وفاته بسنوات قليلة، استدعاني ابنه فرنس أكثر أبنائه دماثة ورقيا، وكان يكنّ ودا خاصا لي بعدما ذاع صيتي كتلميذ فطالب متفوق في كل مراحلي الدراسية، وكنت الأول فيها جميعا على مدرستي ومنطقتي دون أن يحول ذلك بيني وبين الذهاب للحقول للعمل في العطلات، شأن كل الصبية في القري في ذلك الحين، والذين كانوا يتبارون في جمع أكبر قدر من الجنيهات من ”الشغل الشخصي“ قبيل بدء الدراسة كل عام، لشراء ما يحتاجونه من ملبس بحرية كاملة ودون تحميل الوالدين أي أعباء إضافية.. هكذا كانوا يصنعون الرجال مبكرا في قريتي.. كنا جميعا في طفولتنا وصبانا في قريتنا على هذا الحال ولم أكن استثناء، تساوى في ذلك أبناء الميسورين والعوزين على السواء.. لم يكن هناك عيب في ذلك وقتها، وإنما كان العيب أن تجلس في البيت مع النساء والفتيات دون عمل في أيام العطلات والإجازات.

اتذكر أنني في ذلك اليوم كنت مكلف باقتلاع أشجار نبات الخيار، بعد انتهاء موسم حصاد واقتلاع البوص الذي يغرس في الأرض لحماية الشجيرات من البرد والجليد.. أنهيت تقليع أشجار الخيار والبوص وكنت خلالها أجمع ما تبقى من ثمار الخيار الصغيرة وتسمى “نأى” وغالبا ما تخصص للتخليل.. في نهاية اليوم وجدتني وقد ملأت جوالا صغيرا و”غلق” بتلك الثمار، ولن أتمكن من حملها لمنزلي سيما وقد طلب مني فرنس (ابن عمي فؤاد) أخذها جميعا لبيتي بكل ود.. فإذا به يطلب من أخيه الأصغر أن يأتي بحمارهم ويضع الجوال والغلق أمام أخيه على الحمار، ويطلب منه أن يسبقني بهما إلى منزلي قائلا لأخيه بكل حب وود وتقدير نصا: ” خذ حاجة الأستاذ عبد البصير وديها بيتهم وسيبها هناك وقولهم هو بيغسل وشه وبيغير هدومه وجاي بعد شوية”.

وكانت آخر أيام عمل في حياتي في حقل بالأجرة منذ كنت طفلا وحتى السنة الرابعة بالجامعة، وكنت في الثانية والعشرين من عمري واتذكر أني حصلت في ذلك اليوم على ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه، مقابل يوم عمل وكان أجر رجل بالغ ثلاثة جنيهات فقط في ذلك الحين..

رحم الله عم فؤاد أبو دميان ,, بارك في أبنائه.. سيما وأنهم جميعا لا يزالون يلقوني بنفس الابتسامة الودودة، التي طالما ارتسمت على وجوههم حينما كنت أعمل طفلا في حقولهم، مصحوبة بسلام حار دافي وإلحاح في دعوات لزيارتهم في بيوتهم في غير الواجبات الاجتماعية، سيما وقد صرت من سكان المدينة منذ سنوات ولقاءاتي بهم صارت كما باقي رفاق الحقول في قريتي، محدودة لقلة الزيارات إلا في المناسبات.

يوميات طفل ريفي

نرشح لك: يوميات طفل ريفي (1).. البسلة والجليط

شاهد: يوم مش عادي في ضيافة الإعلامية رنا عرفة