محمد عبد الرحمن يكتب: خمسة مشاهد من مهرجان برلين

نقلًا عن مجلة صباح الخير  مشاهد من مهرجان برلين

قبل يومين انتهت الدورة التاسعة والستون لمهرجان برلين السينمائي الدولي، وهي الدورة الأخيرة لمديره ديتر كوسليك بعد 18 عاما قاد فيها المهرجان للصمود ضمن المهرجانات الثلاثة الكبرى حول العالم مع “كان” و”فينسيا”، مواجهًا منافسة شرسة من المهرجانين الفرنسي والإيطالي وصامدًا أمام موجات الصقيع العنيفة التي نادرا ما تترك الشمس تسطع فوق سماء برلين ولو لساعة واحدة طوال أيام المهرجان العشرة.

صباح الخير واكبت معظم فعاليات الدورة، التي شهدت المزيد من الاهتمام بالنساء وتحديدا المخرجات، حيث وقعن أكثر من 40 % من أفلام المسابقة الرسمية، بالإضافة للعديد من الأفلام الجريئة في قصصها والتي تدعم الحرية الشخصية، بجانب الجدل حول المستوى الفني للأفلام بشكل عام.

فيما يلي أبرز خمسة مشاهد يمكن التوقف عندها عن ما جرى في دورة 2019 من مهرجان برلين السينمائي الدولي:

المشهد الأول: الطوابير لا تكذب

فارق كبير بين أن تقرأ رقما مجردا، وتراه متجسدا أمامك في كل مكان تذهب إليه في برلين طوال أيام المهرجان، الرقم المتداول منذ عدة دورات أن عدد التذاكر المباعة لا يقل عن 300 ألف تذكرة، رقم ضخم بالتأكيد، ربما لم أكن لأصدقه لولا أنني أراه عدة سنوات متتالية، لكن في هذا العام ولأن الظروف سمحت بالذهاب لدور عرض أبعد من دائرة المهرجان، فالرقم مرشح للزيادة، والطوابير لا تنتهي، بالمناسبة في أي مهرجان خصوصا الذي يحمل صفة “الدولي” أو يجتهد للحصول عليها، طبيعي أن تكون هناك طوابير، خصوصا عند عرض الأفلام المهمة أو تلك التي تسبقها سمعتها، لكن أن يتكرر الأمر في كل الأفلام تقريبا، أكثر من 400 فيلما تم عرضها أكثر من مرة على مدار 10 أيام هناك.

نحن أمام الهدف الذي من المفترض أن يسعى إليه كل مهرجان.. أن يجعل الجمهور يقبل عليه وقد نجح برلين في ذلك عاما تلو الآخر، لا مجال للمقارنة بالطبع، لكن نتخيل المشهد لو أن مهرجان القاهرة أقنع 50 ألف شخص بالذهاب إلى أفلامه وكل منهم قطع تذكرتين لا أكثر، لو أن متوسط سعر التذكرة خمسون جنيها، هذا يعني خمس ملايين جنيه دخل فقط من التذاكر المباعة.. مهرجانات المدن الكبيرة قادرة على الربح فقط لو توافرت الإرادة لذلك، إرادة دولة وشعب وجهات منظمة.

المشهد الثاني: القاتل المقزز 

أفلام عديدة في مهرجان برلين هذا العام مأخوذة عن قصص حقيقية، لكن هل واقعية القصة تضمن نجاح الفيلم، الإجابة تتوقف على قدرة المخرج على التعامل بحساسية مع الأحداث الحقيقية، وفي حالة فيلم “القفاز الذهبي” للألماني من أصل تركي فاتح أكين، فالأمر جاء عكسيا، حيث أعتبر الفيلم الأكثر تفيرًا من بين أفلام المسابقة الرسمية، بسبب إصرار “أكين” على تقديم الجرائم كما حدثت وبنفس الكم قبل أن يوقع بالقاتل في الدقائق الثلاثة الأخيرة، وكأننا نرى يوميات القاتل نفسه وليس فيلما سينمائيا عليه أن يعيد تقديم الواقع بأسلوب يناسب أذواق الغالبية العظمى من الجمهور حتى يعد فيلما ناجحا.

قصة عن شاب ألماني مصاب بعقد عدة أبرزها العجز الجنسي وتشوه ملامح الوجه، يضع غضبه في النساء العجائز اللائي بلا مأوى يستدرجهن لمنزله ويقتلهن ويقطعهن أشلاء ويخبئهن في نفس المكان، فعل هذا عدة مرات على مدى سنوات، لكن ربما عدد الضحايا جاء أكثر في فيلم فاتح أكين من ما حدث في السبعينات بسبب إصرار المخرج على تكرار لحظات القتل والتقطيع!

مهرجان برلين يتعرض لهجوم متكرر بدعوى عدم اهتمامه بالسينما الألمانية، لكن “القفاز الذهبي” جاء ليؤكد أنه لم يدخل المسابقة الرسمية إلا لأنه ألماني فلا يوجد أي سبب فني آخر.

المشهد الثالث: وصول نتفليكس 

بعيدا عن المستوى الفني المتوسط للفيلم الإسباني “إليسا ومارسيلا“، هذا الفيلم هو الأول الذي يسبق بداية عرضه في قصر المهرجان همهمات غاضبة من بعض الحاضرين، حدث ذلك فور ظهور لوجو “نتفليكس” شبكة المشاهدة المدفوعة مسبقا الأشهر في العالم حاليا؛ الغضب جاء بسبب استمرار وجهة النظر الرافضة لوجود تلك الأفلام في مسابقات المهرجانات، أي الأفلام التي لن تعرض تجاريا، ولن يشاهدها إلا المشتركون في نتفلكس، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها نتفلكس في المسابقة الدولية لبرلين بعدما ظهرت في مهرجان كان ومحافل سينمائية أخرى.

باختصار لا أظن أن المهرجانات ستغلق الباب أمام نتفليكس وهولو وغيرها من الشبكات بسبب اعتراضات المخلصين لشاشات السينما، كما أن وجود نتفليكس في المهرجان يعني أن تلك الشبكات تعرف قيمة الفعاليات الدولية وأهمية أن يرى النقاد الأفلام وأن تحصل الأفلام على جوائز لما له من تأثير في استقطاب المشتركين خصوصا الأكثر ولاء للسينما بشكلها التقليدية، من الصعب القول أن نتفليكس ستقضى على عادة الذهاب للسينما والمشاهدة الجماعية وإن كانت ستؤثر عليها بكل تأكيد، أما المؤكد فإن جودة المحتوى هي الأساس والجمهور سيذهب للفيلم في صالات العرض أو يدفع ليشاهده في المنزل فقط عندما يتأكد أن المستوى يستحق.

المشهد الرابع: خدعة جولييت بينوش 

الممثلة الفرنسية الشهيرة جولييت بينوش هي رئيس لجنة تحكيم الدورة المنصرمة من المهرجان، لكننا لا نتكلم عنها في هذا المشهد بتلك الصفة ولكن لكونها بطلة الفيلم الفرنسي “تعتقد من أكون؟”، سيدة في الخمسين من عمرها تحب مصورا شابا يهجرها فجأة فتحاول معرفة أخباره عن طريق صديقه ومساعده، وذلك من خلال حساب فيس بوك باسم فتاة جميلة وشابة، تفعل ذلك وهي التي لم تستخدم وسائل التواصل من قبل، حتى أنها اضطرت للذهاب لجوجل عندما سألها الشاب عن حسابها على “إنستا”، لم تعرف أنه يقصد “إنستجرام”، عندما يصر الشاب على مقابلتها، تهرب وتدعي أنها ستتزوج، يختفى الشاب ليخبرها صديقها الأول أنه توفى في حادث سيارة حزنا على صديقة الفيس بوك التي هجرته، تصاب بأزمة نفسية، تكتب رواية متخيلة تموت هي أيضا في آخرها، قبل أن نعرف أن المصور ادعى وفاة صديقه حتى يبعدها عنه بينما هو على قيد الحياة وتزوج وأنجب وهي أيضا عاقبت نفسها في خيالها فلم تقتل نفسها في الحقيقة.

الفيلم الذي يتمتع بمستوى أفضل من أفلام شاركت في المسابقة الدولية، يلخص ما نفعله جميعا عبر مواقع التواصل، نخدع بعضنا البعض، نتخيل أنفسنا في ملامح أشخاص آخرين، ولا ندرك حجم المأساة التي يمكن أن تحدث في النهاية.

المشهد الخامس: غياب عربي.. حضور إسرائيلي

في المهرجانات الكبرى يقاس حجم المشاركة بالمسابقة الدولية أو القسم الرسمي خارج المسابقة أو البانوراما، بعد ذلك تتعد الأقسام والبرامج والتواجد فيها يعني حضورا لافتا لكنه لا يرقى لمستوى من نجحوا في التواجد ضمن أفلام الأقسام الأهم.. الغياب العربي كان واضحا هذا العام وهي ظاهرة ممتدة إلا من استثناءات محدودة في السنوات الأخيرة، الأصعب أنه حتى المشاركات المحدودة جاءت أقل من الطموحات أي لا يرقى مستواها للتساؤل بحماس، هذا فيلم جيد لماذا لم نره في قسم أفضل، شاهدت فيلمين عربيين، كلاهما وثائقي، الأول للمصري محمد صلاح بعنوان “لقاء لم يذاع” وهو شريط يحمل كل عيوب التجربة الأولى، حيث لا نفهم لماذا اختار صاحب العمل هذه الشخصية تحديدا للحديث عنها بل أننا لا نعرف عنها التفاصيل اللازمة للمتابعة رغم أنه يتحدث على مدار 40 دقيقة، الفيلم الثاني “وردة متفتحة” للبناني غسان سلهب لا علاقة له بلبنان ولا بالعرب، بل يستعرض رسائل الناشطة الماركسية البولندية روزا لوكسمبورج، التي كتبتها خلال فترة سجنها وكانت موجهة إلى صديقها هانز ديفانباخ الذي قتل خلال الحرب العالمية الأولى. وجاء الشريط فاقدا للقدرة على جذب المتفرجين أو هكذا شعرت وأنا جالس بينهم في دار العرض، يحدث هذا بينما يتزايد وجود السينما الإسرائيلية عاما تلو آخر حتى وصل عدد أفلامهم المشاركة في الأقسام الرئيسية لستة أفلام هذه الدورة، صحيح أن مستواها متوسط أو أقل ولم تحظى بإشادات لكنهم كالعادة ينجحون في استغلال “البروباجندا” للتأكيد على أنهم موجودون وقادرون على إنتاج الفن، لا العنف كما يفعل ساساتهم على أرض الواقع.

محمد عبد الرحمن يكتب خمس مشاهد من مهرجان برلين

نرشح لك: محمد عبد الرحمن يكتب: يحدث في برلين

محمد عبد الرحمن يكتب: بدون مقدمة عن معرض الكتاب 2020

شاهد : الإعلاميون والمشاهير خارج البلاتوهات في برنامج مش عادي

مشاهد من مهرجان برلين مشاهد من مهرجان برلين مشاهد من مهرجان برلين