ياسر نبيل يكتب: "عشت مرتين".. سيرة القنديل الذي لن ينطفئ

أدب السيرة الذاتية أدب ملهم بطبيعته، وغالباً لن تكون نفس الشخص الذي كنته قبل قراءتك له، ففيه تحل ضيفاً على صاحب السيرة لمدة محددة، بالصفحات لا بالساعات، يقص لك خلالها جانباً من حياته، ويطلعك على خلاصة تجربته. البعض يكون كريماً صادقاً فيمدك بأدق التفاصيل، حلوها ومرها، انتصاراتها وانكساراتها، لحظات القوة والضعف الإنساني فيها، والبعض الآخر تستغرقه حالة من النرجسية، فيجعل من نفسه وفقط محوراً للأحداث، والتي يعتمد في روايته لها على ذاكرة انتقائية، يروي ما يشاء ويتغافل ويستبعد ما يشاء، فتنطوي القصة بذلك على كثير من التدليس، وشيئاً فشيئاً تفقد إنسانيتها بالكلية، فهو يحكي لك حكاية بطل أسطوري لا يخطئ ولا يزل، بطل لا وجود له في الواقع؛ هذا بالضبط ما لم يفعله الراحل الكبير الأستاذ حمدي قنديل في روايته لقصة حياته في كتابه القيم “عشت مرتين”.

نرشح لك.. أول راتب يتقاضاه حمدي قنديل من الصحافة

فالرجل متصالح مع نفسه إلى أبعد حد، حتى مع تناقضاته، فقد عاش مدافعاً عن حرية الإعلام والرأي والتعبير لكنه كغيره من القوميين العرب اجتمع في قلبه وعقله ما لا يمكن أن يجتمع في قلب أو عقل بشر، حب جارف للحرية، وتعاطف جامح مع من سلبونا إياها، وإلا فبم تفسر تعاطفه الواضح مع أمثال صدام أو الأخ المعمر، وآخرين غيرهم ممن بلغ تمسكهم بكرسي السلطة مبلغاً لا يوصف، لدرجة أنه يتردد أن أحدهم ينوي الترشح لفترة رابعة رغم أنه أمضى نصف فترته الأخيرة فوق كرسي متحرك! غير أنها وقبل كل شئ ليست مجرد سيرة ذاتية، بل شهادة رائد من رواد الإعلام في العالم العربي، كانت له بصماته ومشاركاته الواضحة في كل مظهر أو مشهد إعلامي ذي قيمة، حدث بمنطقتنا العربية منذ مطلع الستينيات وحتى قيام ثورة ٢٥ يناير التي شارك فيها كعضو في الجمعية الوطنية للتغيير بعدما ساهم ببرامجه (مع حمدي قنديل – رئيس التحرير – وقلم رصاص)، في إيقاظ الوعي السياسي لدى عموم الناس.

 

وقد شارك الرجل في تأسيس التليفزيون المصري وفي إنشاء اتحاد الإذاعات العربية وشبكة راديو وتلفزيون العرب، وأطل علينا بحضوره الطاغي من مختلف الشاشات في مصر والخليج،  وعمل في اليونسكو لعقد من الزمان؛ يرى حمدي قنديل أنه عاش “مرتين” وأرى أنه عاش أكثر من ذلك بكثير، فجال العالم أجمع، من ثورتي الجزائر واليمن ومجاهل إفريقيا إلى ألمع مدن العالم كلندن وباريس ونيويورك، يغطي حدثاً هنا أو يلقي محاضرة هناك، نال الكثير من الجوائز والأوسمة، ورغم وقاره والتزامه الواضحين تشعر أثناء قراءتك للمذكرات – ومن دون تصريح – أن شبابه لم يخل أيضاً من مغامرات.

نرشح لك: حمدي قنديل.. مشوار بقلم رصاص لا يمحوه الزمن

تزوج الرجل ثلاث مرات، وكانت قصته ملهمة إلى أبعد حد، تبعث على التأمل في كل شئ، حتى في جوانبها القدرية البحتة كمسألة عدم إنجابه، لا هو ولا إخوته الذكور، في حين أنعم الله على أختيه بالبنات والبنين، حكمة غابت بكل تأكيد عن والده، الذي غادر الحياة وتمدد قرير العين مطمئن البال، أن نسله لن ينقطع أبداً من هذه الدنيا، وقد ترك فيها من الذكور ثلاثة؛ شاء القدر أن ينقطع النسل، وإن كان الاسم سيظل باقياً بفضل الإنجاز الشخصي والسمعة الطيبة التي يتمتع بها كل أفراد العائلة.

 

ويبدو أنه كي يعيش الإنسان مرتين كان لزاماً عليه أن يدرس مرتين كذلك، وقد كانت بدايته مع دراسة الطب قبل أن يقرر وهو في السنة الثالثة الاتجاه للصحافة ودراسة الإعلام، وخيراً فعل بنفسه وبنا، فمع افتراض استمراره في دراسة الطب كان الأطباء سيزيدون واحداً، أما غيابه عن مشهد الإعلام العربي بعد خمسين عاماً من العطاء الممتزج على الدوام بنكهة النجاح، فأعتقد أنه ترك – ولا يزال – فراغاً لن يملأه غيره.

 

رحم الله الأستاذ حمدي قنديل ذلك الرجل الذي كرس حياته كلها، كي يوقظ وعينا وينير بصيرتنا بضوء قنديله الذي لن ينطفئ أبداً..

شاهد: خالد وياسمين وزواج المؤامرة..