إيهاب تركي يكتب: المهندس الذي أعاد اختراع الكوميديا

نقلا عن جريدة المقال

مستر إكس، وشنبو مصطفى شنبو، والجنرال عسقلانى، والمهندس سبعاوى، والدكتور رأفت، والأستاذ أبو الفضل، وزلاطا، ومسعود أبو السعد، وياقوت عبد المتجلى.  إنه أيضًا عمو فؤاد الذى ملأ حياة الأطفال الدنيا بهجة وسعادة.

شخصياته الفنية لا تزال حية، وجمَل حواره وإفيهاته ما زالت طازجة، تتردد على الألسنة، وأصبحت جزءًا من التعبيرات الخاصة جدًّا التى نستخدمها فى حياتنا اليومية، فلو أردت نصيحة أحد باختيار شىء لا يفضله، ستقول باختصار: «بلاها نادية، خد سوسو»، ولو نجحت أخيرًا فى إعادة «تسطيب» برنامج الويندوز ستصيح بحماس: «المكنة طلعت قماش».

نرشح لك: في ذكرى رحيله.. 15 تصريحًا لـ “هالة” حبيبة فؤاد المهندس

 إنه فؤاد المهندس الذى توقف فؤاده يوم 16 سبتمبر عام 2006، بعد عشرة أيام من ذكرى يوم ميلاده، وكان عمره وقتها 82 عامًا.

فى كل مكان لمسه فؤاد المهندس ترك أثره الساحر الذى لا يخبو مهما مرَّ عليه الزمان، أبدع فى الإذاعة، وقدَّم فيها أعمالًا درامية كثيرة، وكان يمتلك صوتًا جذابًا ومُعبرًا، وتألق على المسرح، وأصبحت أعماله المسرحية القليلة من أهم كلاسيكيات المسرح المصرى الكوميدى، وصنع تاريخ الكوميديا السينمائية من خلال ما يقرب من سبعين فيلمًا ما زالت تُعرَض حتى الآن، ولا يمل الجمهور من مشاهدتها.

رغم أنه جاء بعد عملاق الكوميديا نجيب الريحانى، وعاصرَ إسماعيل يس، فإنه أعاد اختراع الكوميديا بشكل جديد، بدأه مع فرقة الهواة «ساعة لقلبك»، واشتهر بشخصية الزوج محمود الذى يعانى من غباء زوجته، التى كانت تجسد شخصيتها الفنانة خيرية أحمد.

فاته نصف عمره مَن لم يستمع إلى عشرات المسلسلات الإذاعية الكوميدية بصوت فؤاد المهندس، وهى جزء من تراث المهندس المجهول بالنسبة للجمهور الذى لا يعرفه إلا من خلال أفلامه التى يعرضها التليفزيون، وهناك كثير من هذه المسلسلات والتمثيليات الإذاعية متوفر على اليوتيوب بجودة ممتازة، مثل «موهوب وسلامة» بمشاركة عبد المنعم إبراهيم، و«تعبان جدًّا» من تأليف أحمد رجب، و«الثلاثة المدهشين» بمشاركة عبد المنعم مدبولى وأبو بكر عزت، و«دنيا بنت دنيا»، وهو واحد من عشرات المسلسلات التى قدمها مع شريكة حياته وفنه شويكار، وهناك غير هذه الأعمال عدد كبير من الأعمال المتميزة المجهولة، يضاف إليها -بالطبع- برنامجه الإذاعى الشهير «كلمتين وبس» الذى قدم فيه طوال 27 عامًا، وبإلقاء صوتى مميز، نقدًا اجتماعيًّا ساخرًا لسلبيات يعانى منها المجتمع المصرى، وكان الكاتب أحمد بهجت يكتب الحلقات، وكان المهندس ينهى حلقاته بسؤاله الشهير الذى يلقيه باستنكار على المستمع، قائلًا بصوت ساخر: «مش كده ولّا إيه؟».

بعض مسلسلاته الإذاعية التى لاقت نجاحًا جماهيريًّا كبيرًا تحولت إلى أفلام سينمائية شهيرة، مثل «العتبة جزاز» و«شنبو فى المصيدة»، وأصبحت أكثر استمرارية وخلودًا، وشكلت جزءًا مهمًّا من مسيرة المهندس الفنية الأسطورية.

فى الستينيات والسبعينيات كان كثير من الأفلام الناجحة مسلسلات إذاعية بالأساس، فالإذاعة كانت تصل إلى كل شخص فى أى مكان فى البلاد، على عكس الأفلام السينمائية التى كانت تُعرض فى دور العرض داخل المدن الكبرى فقط، ولم يكن التليفزيون منتشرًا كما هو الآن.

وفى التليفزيون قدَّم فوازير «عمو فؤاد» التى أحبها الكبار والصغار، وقدَّم «أرض النفاق» مسلسلًا، بالإضافة إلى مسلسل «عيون»، أحد أهم أعماله التليفزيونية.

معظم أعمال المهندس الإذاعية، كما فى المسرح والتليفزيون، بمشاركة الفنانة شويكار، وإذا كانت موهبة فؤاد المهندس الكوميدية استثناءً إبداعيًّا، فالدويتو بينه وبين شويكار هو من أنجح نماذج الثنائيات الفنية فى تاريخ الفن المصرى، وهناك حالة من التناغم الاستثنائى بين الاثنين أمام الكاميرا، وخلف ميكروفون الإذاعة، وفوق خشبة المسرح، وكان كل منهما يؤثر بوهَج موهبته فى الآخر، وهذا يفسر كثيرًا هذا العدد الكبير من الأعمال التى شاركا فيها معًا، وفيه تركيز على علاقة الحب التى تحدث رغم التنافر بين شخصيتيهما، هى الهانم، السيدة الأرستقراطية المدللة، وهو الموظف الغلبان الذى يقع فى غرامها، وعلى هذه التيمة قدما معًا عشرات الأعمال، منها بالطبع مسرحيات «أنا فين وانتى فين»، و«أنا وهو وهى»، وأفلام من نوعية «العتبة جزاز»، و«الراجل ده حيجننى»، وهو الفيلم الشهير الذى جسد فيه شخصية الرجل المسالم الذى تهجره زوجته بصحبة طفلتهما، ويظن هو أنها ذهبت لشراء طابع بوسطة.

بالطبع كانت مسرحية «سيدتى الجميلة» استثناءً لهذه الحالة، إذ انقلبت الأدوار، وقدمت شويكار شخصية الفتاة الشعبية النشالة، التى يحاول كمال الطاروطى تعليمها آداب الإتيكيت، وفى كل الأحوال كان الثنائى يُبدع فى تجسيد الشخصية، وصُنع ملامح جذابة لها.

لم يكن فؤاد المهندس شخصًا ساذجًا وضعيفًا كما كان يظهر فى أفلامه، وكان عنيدًا ومثابرًا حينما يتعلق الأمر بالفن، وبحكم شهرة شقيقته الإذاعية «صفية المهندس» أتيحت له فرصة لقاء مشاهير النجوم، وفى حفل زفاف شقيقته كان نجيب الريحانى من الحضور، وكفراشة تنجذب للضوء ظل منجذبًا للريحانى الذى لم يكن يعرفه، ووصل به الضيق من هذا الشاب الذى يلتصق به كظله إلى أنه طلب منه الابتعاد عنه، وقال بغضب: «حرام عليك، مش عارف أتنفس منك، روح فى داهية»، وقامت العروس من الكوشة لتعرفهما ببعض، ولإنقاذ الريحانى من شقيقها الذى كان مهووسًا بنجمه المفضل هوَس سبعاوى بالمكنة اللى بتعمل قماش فى فيلم «عائلة زيزى».

لم يتعامل المهندس مع الإفيهات الكوميدية كأنها هدف فى حد ذاتها، بل كان يصنعها كجزء من الشخصية التى يؤديها، ولهذا خلدت إفيهات مثل: «المكنة طلعت قماش»، و«طويل العمر يطوّل عمره ويزهزه عصره وينصره على من يعاديه» من فيلم «صاحب الجلالة»، وهو دور مساعد جسد فيه شخصية «الياور» الصارم الذى يحاول تعليم حسن الشيال «فريد شوقى» أن يحل محل سلطان بورنجا.

فؤاد المهندس بدأ مسيرته الفنية بشخصية محمود، التى كان يقدمها مع خيرية أحمد فى برنامج الإذاعة «ساعة لقلبك»، وهى الشخصية التى قدمها فى السينما من خلال فيلم «عريس مراتى»، إنتاج عام 1959، وهو فيلم من بطولة إسماعيل يس، لكن لم يظهر المهندس وإسماعيل يس فى مشهد واحد معًا، وانطلق المهندس بعدها فى السينما بعديد من الأدوار المساعدة، أغلبها كان بشخصية صديق البطل، وفى منتصف الستينيات قدم عددًا من الأفلام من بطولته، منها «هارب من الزواج»، و«أنا وهو وهى»، و«اعترافات زوج»، وكان من الواضح أن بطولاته السينمائية صدى لنجاح مسرحياته التى حققت نجاحًا جماهيريًّا، ولفتت النظر إلى موهبته الكوميدية الكبيرة.

توالت بعدها أفلامه الكوميدية الاجتماعية والرومانسية، وبرزت منها نوعية صارخة من الكوميديا الخفيفة من نوعية «أخطر رجل فى العالم»، و«العتبة جزاز»، و«شنبو فى المصيدة»، و«إنت اللى قتلت بابايا»، وتجمع بينها تلك الحالة الساخرة التى تكاد تكون «بارودى» من أفلام العصابات الأجنبية، ولكنها كانت تحمل إسقاطات على حالة الاستعداد للحرب التى كانت تعيشها البلاد، وجاءت هذه الأعمال بعد هزيمة 67، وكانت تحمل فى تفاصيلها نوعًا من توعية الجمهور ضد الأخطار التى يواجهها من الغرب، وبالطبع فكرة الجواسيس كانت حاضرة فى عدد من الأعمال، مثل «العتبة جزاز»، وهذه الفكرة تحمل الكثير من المناطق الكوميدية، وكتب عبد المنعم مدبولى الفيلم، وشاركه عبد الحى أديب فى كتابة السيناريو، وينتهى بنشيد وطنى يهاجم مَن يخون بلده، ويبدأ بمقطع يقول: «السلم نايلو فى نايلو والعتبة جزاز»، ويصل إلى مقطع يقول: «اللى يخون أهله وبلده يستاهل الحرق بجاز».

ربما لم تكن تلك التركيبة السطحية للجمع بين الكوميديا والسياسة موفقة على مستوى القيمة الفنية، لأسباب تتعلق بظروف البروباجندا فى هذا الزمن، وخرج الفيلم هزليًّا مثل عديد من الأفلام الأخرى التى جاء فيها رجل المافيا «مستر إكس» للقيام بعملياته فى مصر، ليفاجأ بشبيهه المصرى موظف شركة التأمين الطيب، الذى يتمكن من خداعه والإيقاع به فى نهاية الأمر.

حاول المهندس تقديم تجربة مسرحية سياسية بمقاييس فنية خاصة، وتحمس بالفعل لتقديم مسرحية كتبها بهجت قمر، وكانت بعنوان «ليه..!»، ورغم نجاح المسرحية فنيًّا، فإن الجمهور انصرف عنها، لأنه تعوّد أن يذهب للضحك فى مسرحيات فؤاد المهندس، ولم يكرر التجربة بعدها، وأدرك أن الكوميديا الخفيفة التى يقدمها هى التى يحبها الجمهور، ولكنه رغم ذلك بدأ يركز على وجود رسالة عائلية واجتماعية واضحة فى أعماله اللاحقة.

يكفى أن يتكلم المهندس لتتحول جمَل حواره إلى عمل فنى بديع، وهو يمتلك موهبة التعبير المدهشة عن كلمة وحرف ينطقه مهما كان بسيطًا، وهو يعبر بصوته وملامح وجهه وحركات جسده فى وقت واحد، ويتعايش مع الشخصية التى يؤديها بشكل تام، ويستطيع تحويل دور صغير إلى شخصية حية ومميزة وأصيلة، فحينما نراه يؤدى شخصية عبد السلام الدمنهورى، الجار العازب والرسام غريب الأطوار الذى يسكن فوق سطح العمارة التى يسكنها الزوجان عادل إمام ولبلبة فى فيلم «خلى بالك من جيرانك»، فإنه يصنع للشخصية ملامح وسلوكًا خاصًّا بعيدًا عن الافتعال والنمطية، وهذا النوع من الكراكترات التى يصور فيها شخصيات ذات طابع متزمت وجاد قدمه بأشكال متنوعة فى عدد من الأعمال الكوميدية، منها سكرتير سفارة فيحان فى فيلم «جناب السفير»، وياور السلطان فى «صاحب الجلالة».