في ذكرى رحيله.. مواقف "في حضرة نجيب محفوظ"

هالة منير بدير

كان الأديب الكبير نجيب محفوظ يجيب دومًا من يسأله عن سبب عدم كتابته سيرته الذاتية، بأن حياته ليس فيها ما يهم أحدًا، وبالرغم أن حياته الطويلة التي تعدَّت تسعين عامًا كانت حافلة بالإنجازات والنجاحات التي لم يسبقه فيها أحد، إلَّا أنه بلغ من التواضع الذي يجعله معتبرًا حياته حياة عادية ليس فيها ما يتم توثيقه، ولكن كتاب “في حضرة نجيب محفوظ” للكاتب محمد سلماوي؛ ذاخر بالمواقف والحكايات عن نجيب محفوظ، اجتهدت أن أنقل بعضًا منها، مما قد يكون طريفًا أو إنسانيًا أو إرشاديا، إمَّا تلخيصًا مما ورد على لسان سلماوي، أو نقلا بالنص عما رواه محفوظ بلسانه أو نقلا عنه، وفيما يلي بعض الحكايات المنتقاة.

ثمن أول كتاب لنجيب محفوظ

أول كتاب أدبي صدر لمحفوظ هو رواية “عبث الأقدار” وكان ثمنه قرش صاغ واحد؛ (وياريته أخذه كمان)، كان ذلك في عام 1938 فلم يتقاضَ أجراً عن الكتاب، بل حصل من الناشر على 500 نسخة، أخذها على عربة حنطور ووصل بها إلى أقرب مكتبة، فتفاءل باسمها “الوفد”، وعرض الكتب على صاحبها، فقال له: “مين نجيب محفوظ ده؟!” فقال له أنه هو، فقبل عرض الكتاب في مكتبته على أن يبيعه بقرش صاغ واحد، كلما بيعت نسخة سيعطيه تعريفة ولصاحب المكتبة تعريفة.

ظل محفوظ يمر على المكتبة كل يوم ليسأل صاحبها عن أي نسخة قد بيعت، لكن الإجابة كانت أن أحدًا لم يشترِ الكتاب، حتى يوم مر بالمكتبة ولم يجد الكتب في العرض فظن أنها بيعت كلها، إلَّا أن صاحب المكتبة أخبره أنه أودعها المخزن لأنها “ملهاش سوق”. ولكن بعد صدور رواية “خان الخليلي” التي ذاع صيتها اكتشف محفوظ أن صاحب المكتبة أخرج نسخ “عبث الأقدار” من المخزن وكان يبيعها بخمسة قروش، لكنه كان يحاسبه على الاتفاق القديم، فكان لا يحصل من الخمسة قروش إلا على الخمسة مليمات المتفق عليها!

نرشح لك: تعرَّف على عدد مؤلفات نجيب محفوظ لدى “دار الشروق”

قلم محفوظ الذي عاد إليه بعد وفاته

شاب خرج لتوه من اعتقال سياسي قضى على موهبته الأدبية، قابل نجيب محفوظ سائرًا على قدميه في أحد شوارع القاهرة، فلما وجد من محفوظ استجابة في التحية تشجع وشكا له همه، ولكن محفوظ لم يواسه أو يُطَيِّب خاطره وإنما دعاه لحضور لقائه الأسبوعي بكازينو قصر النيل، قائلا له: “سأكون في انتظارك فلا تتخلف”، ذهب الشاب ووجد نفسه بين عمالقة الفكر والأدب، وشكر محفوظ في نهاية اللقاء، ولكن محفوظ قال له: “موعدنا الأسبوع القادم إن شاء الله”، وهكذا واظب الشاب على حضور جلسات محفوظ.

وبعد عدة أسابيع بدأ يشارك على استحياء، وفي نهاية أحد هذه اللقاءات قال له محفوظ: “إنك لم تأتني حتى الآن بأي شيء كتبته!”، فقال له الشاب: لقد بدأت الأفكار الأدبية تداعبه من جديد، ولكنه لا يملك ثمن القلم والورق، فأخرج محفوظ من جيبه قلم “شيفرز” أعطاه له قائلا: “هذا هو قلمي لتكتب به”، ثم أعطاه عشرين جنيها قائلا: “وهذا ثمن الورق، أما النشر فاتركه لي”.

هذه القصة الإنسانية المؤثرة رواها رجل للأستاذ محمد سلماوي، وقام بإعطائه هذا القلم الذي ظل محتفظا به لسنوات، ويرقد الآن هذا القلم الأسود ذو الغطاء الذهبي وسط مجموعة من متعلقات نجيب محفوظ في خزانة عرض متحفية خاصة بالمبنى التاريخي لاتحاد الكتاب بقلعة صلاح الدين، إلى جانب كلمته في احتفالات نوبل بخط يده والعصا التي كان يتكىء عليها.

الخطة الأولى لحادث الاغتيال

– ما رواه محفوظ لسلماوي:

عندما ذهب الكاتب محمد سلماوي إلى الأديب نجيب محفوظ في مستشفى الشرطة عقب حادث الاغتيال الغاشم، قام محفوظ برواية ما حدث كالتالي:

“أنا لم أرَ الشاب الذي اعتدى عليَّ.. لم أرَ وجهه.. الذي حدث هو أنني وأنا أهُم بركوب السيارة لأذهب لموعدي مع أصدقائي الندوة الأسبوعية، وجدت شخصا يقفز بعيدا، وكنت قد شعرت قبلها بثوان معدودة وكأن وحشا قد نشب أظافره في عنقي، وقد دهشت ولم أدرك بالضبط ما حدث، لكني حين شاهدت هذا الشخص يرمي خنجرا كان في يده فهمت على الفور ما حدث، وعرفت أن هذا الخنجر هو الذي كان في عنقي، وبدأت أشعر بالدماء تنزف من عنقي، فوضعت يدي على رقبتي لأوقف النزيف، بينما انطلق صديقي الدكتور هاشم فتحي بالسيارة إلى مستشفى الشرطة الملاصق لبيتي”.

نرشح لك: أبرز 30 مقولة لـ نجيب محفوظ

وعندما سأله سلماوي عن مشاعره تجاه ما حدث؛ قال: “شعوري مزدوج، فمن ناحية أشعر بالأسف لتكرار جرائم الرأي، إنه لشيء مؤسف جدا ومسيء جدا لسمعة الإنسان في العالم أن يؤخذ أصحاب الرأي.. أصحاب القلم هكذا ظلما وبهتانا. ومن ناحية أخرى، فإنني أشعر بالأسف أيضا من أن شبابا من شبابنا يُكرِّس حياته للمطاردات والقتل فيطارد ويُقتل، بدلاً من أن يكون في خدمة الدين والعلم والوطن، إن الشاب الذي رأيته يجري كان شابا يافعا في ريعان العمر.. كان من الممكن أن يكون بطلا رياضيا أو عالما أو واعظا دينيا، فلماذا اختار هذا السبيل؟ لست أفهم!.. إنه ضحية، لذلك فشعوري نحوه هو شعور الأب تجاه الابن الضال الذي ضل الطريق، إنه شعور أكثر إيلاما مما يمكن أن تشعر به تجاه أي مجرم عادي، لكني سامحته عما يخصني، أمَّا ما يخص المجتمع فالعدالة يجب أن تأخذ مجراها”.

– ما رواه المجرم منفذ عملية الاغتيال لسلماوي عن خطة الاغتيال:

كان مخطط عملية الاغتيال هو توجه منفذي العملية (محمد ناجي وباسم “الذي قُتِل أثناء القبض عليه”) إلى منزل نجيب محفوظ في اليوم السابق على الاغتيال، فقد ذهبا بالفعل وكانا يحملان داخل طيات ملابسهما مسدسًا وسكينًا، وكان باسم يرتدي ملابس عربية ليبدو أنه من دول الخليج، حاملين الحلوى والورود للتمويه، ولمَّا فتحت زوجة محفوظ الباب قالت أنه غير موجود، وأنهم يمكنهم مقابلته في الغد في ندوته بكازينو قصر النيل في الخامسة بعد الظهر. فقال المجرم: أن الخطة كانت ذبح نجيب محفوظ داخل منزله بالسكين، والمسدس كان لتهديد أهله حتى لا يطلبون النجدة، فلمَّا لم يجدوه قرروا ذبحه في اليوم التالي.

تأثير جائزة نوبل عليه

عندما سُئِل نجيب محفوظ عن شعوره عندما علم بفوزه بالجائزة قال: “لقد تنازعني شعوران؛ أولهما: السعادة المفرطة، وثانيهما: الدهشة العارمة، فلم أكن أتوقع مثل هذا الفوز، كنت قد سمعت بالطبع بالجائزة وبالفائزين بها لكني لم أتخيَّل أبدا أنني سأفوز بها في يوم من الأيام، لأن من فازوا بها كانوا كتابا على أعلى مستوى، وقد كنت أسمع أنه ربما يفوز بها كاتب عربي لكني كنت أشك كثيرا في ذلك”.

وعندما سُئِل عن تأثير الجائزة عليه شخصيًا وعلى أعماله قال: “فيما يتعلَّق بأعمالي فمن الطبيعي أن تشجعني على مواصلة الكتابة، ولكن جاءتني الجائزة في مرحلة متأخرة من حياتي الأدبية، فلم أكتب بعد نوبل إلا “أصداء السيرة الذاتية” و”أحلام فترة النقاهة”، حتى رواية “قشتمر” التي صدرت في كتاب بعد الجائزة؛ كنت قد كتبتها قبل ذلك ونُشرت مسلسلة في “الأهرام”. أمَّا من الناحية الشخصية فقد فرضت نوبل عليَّ أسلوب حياة لم أعتده ولم أكن أفضّله، تمثَّل في سيل المقابلات والأحاديث الصحفية في الجرائد والتليفزيون، وأنا قبل ذلك كنت أفضِّل أن أعمل في هدوء.

وعندما سُئِل عن ماذا حدث له منذ فوزه بالجائزة عام 1988 قال: “أهم ما حدث لي هو تلك العَلْقَة التي نلتها عام 1994”. ( مشيرا إلى رقبته قاصدًا حادث الاغتيال).

الجوائز المالية التي لم يُنفقها

بعد أن تَحَدَّدَ طريقه في الفن الروائي وعرفه الناس فاز بجائزة الدولة مرتين:

المرة الأولى هي جائزة الدولة قبل الثورة وكانت تُعرف باسم “جائزة الملك فؤاد” وكانت قيمتها ألف جنيه، وكان هذا المبلغ كبيرًا في ذلك الوقت، فخشية أن يضيع اشترك في جمعية كانت تقوم بإنشاء فيلات على النيل بالمعادي، ولكن بعد أن دفع الألف جنيه حدث أن كان رئيس مجلس إدارة الجمعية والسكرتير في طريقهم إلى الإسكندرية حاملين معهم نقود كل المشتركين؛ لإتمام بعض العمليات التجارية حين انقلبت بهم السيارة ولقوا حتفهم وضاعت كل الأموال بعد أن وجدوا الحقيبة التي كانت معهم فارغة.

والمرة الثانية بعد الثورة، وكانت ألفين وخمسمائة جنيه، وكان الاعتقاد السائد وقتها أن كل الفنانين معفيون من الضرائب، ولكن بمجرد استلامه الجائزة وجد أن الأديب ليس فنانًا وفق تعريف الحكومة، لذا حاسبته الضرائب بأثر رجعي على كل السنوات الماضية التي تصور نفسه فيها فنانًا، وبهذا راحت الجائزة وفوقها ما هو أكثر.

ثم جائزة نوبل التي ظن أنها ستعوضه عن كل ما فات، ولكنها صودرت هي الأخرى ولكن المصادرة هذه المرة جاءت من أسرته، فقام بتوزيعها على زوجته وابنتيه، أما نصيبه الشخصي من الجائزة فقد تبرع به لصالح مرضى الفشل الكلوي.