إسراء إمام تكتب: "تراب الماس" كفة الخيبة التى ربحت!

فن الرواية يعد دومًا مضيفًا آمنًا للشخصيات المتعددة، بيئة خصبة للحكى المُتفرَع الذى سيتشابك فى الوقت المناسب، وسينصب على بعضه عند نقطة معينة، متمهلا، مطبوخًا بتأن لينال من القارىء بضراوة، منصهرا ذائبا بعدما تماسكت كل خطوطه منغلقة على سرها لأمد.

ورواية “تراب الماس” لأحمد مراد، من الروايات التى اختارت الحكى عن أكتر من شخصية، كل واحدة منها ستتكاتف لتتحكم فى مصير الأخرى، ولكن فى البداية لابد من التعريف بها وبكافة ما تفعله على حدى، وكأنك تذهب لمقابلة من وعدك بأنه سيأتيك بخبر مثير، فتلاقيه فى المكان والتوقيت، بينما تجده وسط أكثر من رفيق، يتمادى فى تقدميهم لك، هذا “فلان” وهذا “علان”، ثم  يأخذ أخيرا فى سرد ما فعله هذا “العلان” بـ”الفلان”، وبعدها يقطع حدوتته، ويبدأ بتعريفك إلى “ترتان” هو ومن حضروا معه، وبعد زمن ليس بهين، يستطرد بكشف الحجاب عن علاقة هذا “الترتان” بالحكاية إياها لـ “علان” و”فلان”. هذا النمط من الحكى، يلائم طبيعة الأدب، ويصلح أكثر لمزاج القارىء، وهذا لا ينفى أبدا أن السينما يسعها إحتوئه، لكن المتفرج أقل صبرا من القارىء، ولهذا فإن قررت تناول مثل هذه الحبكات سينيمائيا، عليك بأن تجيد صنعها، وكلمة السر الأولى فى كتالوج هذه الإجادة التى أقصدها، هى التمهيد.

كيف يمكننى أن أمهد لكل شىء، شخصيات وحدث، تمهيدا محبوكا مُرتبا، لا تشوبه شائبة سهو، أو “كروتة”.

نرشح لك : «تراب الماس».. عندما تدسُّ السم بيديك تطبيقاً للعدالة!

فيلم “تراب الماس” للمخرج “مروان حامد”، والمقتبس عن الرواية التى نتحدث عنها، فيلما جيدا بالطبع، تفوق على الرواية بعدة نقاط، لكنه كان مدينا لها بضعف ما أجاد. فالسيناريو وقع فى ذات المأزق، منطق قلة العناية بالتمهيد، فكان عليه أكثر مما له، حتى وإن شهدنا بقيمته وقامته.

رواية متأنية وسيناريو مكروت

سيناريو “تراب الماس” بدا كلاعب كوتشينة قليل الخبرة، وخاصة فيما يتعلق بالتعريف بأغلب الشخصيات، ومراعاة العامل الزمنى بين خطوط السرد، فظهرت الحدوتة أحيانا عشوائية غير مُلهِمة التتابعات، مُتعجلة لا تقف عند الحضور الأول للشخصيات والحقائق والمواقف كما يجب.

فنجد هذا جليا عند شخصيات مثل “بشرى صيرة/شيرين رضا” والتى رأيناها سريعا على الشاشة أمامنا، تتفاعل مع شخصية رئيسية مثل “وليد سلطان/ ماجد الكدوانى” دون تعريف يليق بمهنتها الباطنية كقوادة أرستقراطية، وما يغطيها من وجاهة اجتماعية مغايرة. تكرر الأمر مع شخصية “هانى برجاس/ عادل كرم” الشاب الذى نراه فى كادر مظلم شحيح الحوار، يسأل الدكتورعن حالة والده فى سطرين خائبين من الحديث المتوَقَع، الذى لم يستدل منه المتفرج على هوية هذا الشخص، على الرغم من كونه شخصية هامة هو و”بشرى”، بل وخلفية وجودهما ستؤجج حبكة الرواية بأكملها.

نقطة أخرى حيوية جدا، امتدت لتصيب متن السيناريو وتجعله فى موقف ضعف أمام الرواية، وهى الحوار، فحوار الفيلم لسبب غامض تم تكتيفه ولهوجته، فى تصميم غريب على اقتطاع الجمل الرنانة ذات الوقع الجدالى المميز، لحساب جمل أخرى تقليدية محفوظة، وبالرجوع مثلا لمشهد تسميم “حسين الزهار” لـ “محروس برجاس” نرى الفارق الجلى فى قوة وتأثير الحوار بين الأول والثانى فى الرواية عن الفيلم بمراحل، فى الرواية مثلا نرى “برجاس” يجادل “حسين” عن الأحلام قائلا: يوسف نبى كان مكشوف عنه، فيجيبه “حسين”: والملك كان كافر وشاف السبع بقرات. جدال مثل هذا تم اقتطاعه فى الفيلم لأى سبب؟، هل لكونه غير جماهيرى كفاية؟ أم لتنقيح الكاتب “أحمد مراد” حواره بنفسه، لأنه بات الآن غير راضيا عنه! المهم أن هذا الداء أصاب حوار الفيلم بأكمله، فجعله عاديا باهتا، تماما كالعمل بعناية على تشابك خطوط السرد وتهذيبها.

وبالتعمق أكثر فيما قدمه الفيلم من دراما، سنجده لجأ لأسخف طرح يمكن استخدامه لحل معضلة المعايشة الزمنية لحدوتة شخصية “سارة/ منة شلبى”، والتى قدمتها الرواية فى توقيت صدورها قبل الثورة، بإعتبارها فتاة من شباب وسط البلد الثوريين، أصحاب العالم الخاص الذى يحمل أكثر من وجه قبيح ممكن وجميل أيضا، ولأن الفيلم اختار أن يحاكى الحبكة فى تأريخ حالى، كان لابد أن يوجد بديلا منطقيا لحكاية “سارة” التى تعتمد كليا على توقيت ما قبل ثورة يناير 2011، ولهذا اختلق شخصية “شريف مراد/ إياد نصار” والذى يمثل شخصية “إبراهيم” فى الرواية، الثانى مناضل يتكشف لـ”سارة” زيفه بعدما يتحرش بها فى الميدان إثر وقوعها أثناء إحدى المظاهرات، والأول إعلامى تواجه معه “سارة” نفس المصير بعدما يقع فى يدها عدة أفلام جنسية تراه يضاجع فيها العديد من السيدات، وهو الرجل الحر صاحب الكلمة الحقة. ولكن للأسف، هذا الخط الدرامى الواهى الخاص بـ “شريف مراد” و”سارة” فى الفيلم كان أحد أسوأ خطاياه الغير مقبولة كليا، لا على المستوى العام ولا التدقيقى، فمصادفة “سارة” تعثر فى مشهد مشوّه غير مكتمل على الأفلام فى منزل “شريف” وهى التى كانت تتردد عليه قبلا لفترة طويلة، ثم تدخل إلى غرفته وتواجهه مهددة إياه جهرا وسذاجة بأنها ستقوم بفضحه، فإذا به يقوم باغتصابها أمام الكاميرا صانعا لها فيلما يخصها كفيل بإسكاتها، هذا كله وقبلها بمشهد كنا قد اكتشفنا فجأة أن “سارة” تمارس علاقة جنسية أصلا مع “شريف” ومن الواضح أنها تطالبه بالزواج، بينما يتهرب هو بشكل فاضح وغير مقنع، فإذا بها ترتمى فى حضنه. فيبدو الأمر وكأننا نستمع إلى أحدهم وهو يقول “بصوا هى بتنام معاه وهو مش عاوز يتجوزها أوك، المعلومة دى وصلتكم؟ عشان بعدها بمشهد هاتكتشفوا إن عنده سعار جنسى وبيصور نفسه وهو بينام مع ستات تانيين، فهى هاتدخل تواجهه، فهايصورها هى كمان، المهم يعنى إنه هايمسك عليها ذلة، علشان تضطر تموته بتراب الماس فى النهاية”.

العديد من السقطات الغريبة التى سمحت للسيناريو بأن يضع “وليد سلطان” على باب “طه” مداهما إياه، بدون داعى لمجرد شكه بأنه له يد هو ووالده “حسين الزهار” فى أورام “برجاس” و”السيرفيس”، هكذا وبدون أى تخمين ممسوك، ثم نجد “وليد” يُلخص لـ”طه” وهو فى الحقيقة يخبرنا نحن، لماذا فكر فى “طه” وقرر زيارته ثم وبالصدفة الكونية الغريبة، وجد لديه أثناء هذه الزيارة مذكرات والده التى تبوح بكل شىء، بينما نجد لزيارة “وليد” فى الرواية داعيا منطقيا، حيث أخبره “السيرفيس” بنفسه أن “طه” هو من قام بتسميمه، بعد اعتراف “طه” شخصيا له متشفيا مكلِلا فعل إنتقامه منه للنهاية، لماذا تفلسف الفيلم وقام بتغيير اعتراف “طه” ولم يتصرف بشكل احترافى لتبرير زيارة “وليد”، وماذا لو كان “وليد” لم يجد مذكرات “حسين” والد “طه”، ما الذى كان سيقوله “وليد” لـ “طه” حينها بعدما قرر زيارته لسبب غير مفهوم، ولكنه مشروع فقط بمنطق الفيلم الطفولى، الذى نسمعه يقول من جديد: “وليد هايروح يزور طه عشان يلاقى المذكرات بتاعة والده، ويبدأ يبتزه بيها”.

فى النصف الثانى من الحبكة، يشعر كل من قرأ الرواية بالحالة التى انتابت “طه” من الهزل النفسى والبدنى، هذه الدوامة الكابوسية التى ابتلعته وابتلعتنا معه، فى الفيلم كانت هذه الحالة غائبة ومفقودة، ثمة رائحة إتزان لازلت تشتمها فى روح البطل، السموم التى بداخله لم تتخطاه وتحيل ما حوله للون أسود، التفصيلة الوحيدة التى حاول الفيلم استخدامها فى تحمية الموقف لصالح حالة التشوش المقصودة، كانت فى مشهد التخلص من جثة “السيرفيس”، حيث مكثت “سارة” فى شقتها تستمع فى غير إرادة لصوت المنشار وهو يُقطع من جسد “السيرفيس” على يد “طه”، ولكن الأمر برمته بقى فى نطاق ضيق، مقارنة بما يجب أن يكون عليه عالم “طه” من فزع وتشوش وهاجسية، بعدما أصبح قاتلا.

نرشح لك : تراب الماس.. 16 اختلافًا بين الفيلم والرواية

الوجه الجميل للسيناريو

ثمة حسنات لا يمكن تجاهلها فى السيناريو سواء بشكل مطلق، أو مقارنة بالرواية، أولها علاقة “طه” بوالده “حسين الزهار”، فمن خلال مشاهد بسيطة ذكية، تسلل إلينا مدى تعلق “طه” بوجود والده، ونمت داخلنا تلك المساحة الحميمية التى كانت بينهما، بداية من مشهد مزحهما سويا فى بداية الفيلم حينما التقط “طه” ساقيّ والده ليدلكهما بحب، مرورا بالمشهد الذى كان يحممه فيه بيده، أو نهاية بذاك الذى ارتكنا فيه داخل الحديقة يأكلان الطوفى مبتسمان، هذه المُقدمة الوافية الدسمة كانت خير معين لتحضنا على تفهم لوثة “طه”، التى جعلته يقوم من فراشه بعد الحادث بكل عفوية لينادى على والده بحسرة بعدما أتاه خبر موته، وهذه التفصيلة هى الأخرى جديرة بالاحترام على مستوى توظيفها، أو تنفيذها تمثيلا وإخراجا.

مع إخفاق الفيلم فى تحضيرنا للتعرف على عدد من الشخصيات، نجده فعل العكس تماما مع شخصية “السيرفيس/ محمد ممدوح”، فحين وصول “السيرفيس” الصيدلية يرتاب المُساعد الذى يشارك “طه” العمل، وينسل إلى الداخل هاربا، فى الوقت الذى يرمقه “طه” باستغراب، غير مهتما بالنظر أمامه، مسترسلا فيما يفعل، حتى يبلغه “السيرفيس” ويطلب منه دوائه المُدرج ضمن أدويية الجدول الممنوع تداولها، نفخ السيناريو فى شخصية “السيرفيس” وطورها لتصبح أكثر عنفا، فابتدع هذا الهجوم العنيف الفورى الذى شنته على “طه” حين رفض إعطاؤه الدواء، فكان لوقع ظهور هذه الشخصية نذير واضح له دلالة محدثا التأثير المطلوب.

تحايُل قوى أيضا نلمحه فى القطع الموازى الذى حدث بين مشهد “هانى برجاس” وعشيقه حينما كانا يتحدثان بلطف على فراش من حرير، مُحاوطان بأجواء برجوازية، تمهيدا لنوبة عشق مثلية، بينما من حين لآخر نذهب لمشهد آخر، يحدث داخل زنزانة قذرة، نرى فيه ذبح عشيق “هانى” الآخر الذى وقع تحت يد المباحث، وخر بالسر الذى لديه عن علاقته بـ”هانى برجاس”، مما عَجَل بالتخلص منه دون أية حسابات.

بعض حديث عن لغة الصورة

فى مشهد موت “حنفى الزهار”، نجد الكاميرا تقف فى لقطة كبيرة قريبة على وجه “حسين” الطفل وهو يتدبر معانى حديث والده، وتمر ثوان صامتة مُربِكة حتى ينتبه إلى سكون والده، الذى مات بينما يتحدث إليه. تنفيذ هذا المشهد بصريا كان بديعا على مستوى لا يمكن تجاهله، متضافرا جنبا إلى جنب مع الحرص بأن يكون للموت هيبة فى نفس “حسين” والمتفرج على السواء. وثمة مشهد آخر تم استخدام نفس التكنيك فيه تقريبا، حينما تلقى “طه” الضربة فوق دماغه، ووقع على الأرض، فاقتربت منه الكاميرا تماما وتسمرت لثوان فى إيحاء بأن الأمر الآن بات بينه وبين نفسه، فإذا به يهم بالقيام من على الأرض وينازع للوصول إلى باب الشقة ليقع عنده. فإذا ربطنا بصرية المشهدين معا، سنجد لهما معنى جميل يخص المشاعر الآدمية تجاه الموت، ففى المشهد الأول يتعرف “حسين” الصغير على الموت بينما يداهمه فى غلفة، وفى المشهد الثانى ينازعه “طه” شابا وهو حريص على التغلب عليه، فى المشهد الأول الصمت يخفى تسليما خانعا ساكتا، وفى المشهد الثانى الصمت يوارى حربا متضاربة الأصوات والدوافع.

ثمة كادر ينام فيه “وليد سلطان” على فراشه بينما الكاميرا ترمقه بشكل فوقى وهو يتنبأ لـ “طه” بالموت، قائلا “الواد فى غيبوبة، بس هايموت”، يلى هذا الكادر، كادر مماثل تماما لـ “طه” وهو فى نفس الوضعية على الفراش ومن الكاميرا، يفتح عينيه مقاومًا غيبوبته، فى بصرية ذكية نستدل منها على حالة الندية والتناحر التى سيدخلها الشخصيتان فيما بعد.

آخر كلمتين:

_ اختيار الممثلين لم يكن موفقا فى دور مثل دور “حسين الزهار” مثلا وهو القائم على استخدام صوت الممثل بنسبة كبيرة، ورغم ذلك نراه يذهب إلى “أحمد كمال” صاحب الحنجرة المحايدة، التى لم تشتعل بالقدر الكافى وهى تُملى علينا مذكراتها صوتيا، غير أنه لم يكن يلمع كما ينبغى أيضا على مستوى المشاهد التى ظهر فيها، والتى طالها أيضا هذه الإحساس الواقف فى المنتصف، رغم أن هذا الدور كان فى حاجة لممثل أكثر اتقاد.

ثمة علامة استفهام حول الجملة التى كانت تقولها “سارة/ منة شلبى” لـ”شريف مراد/إياد نصار”، حينما كانت تأنبه بخصوص ارتضائها بفارق السن بينهما!

علامة استفهام أخرى حول اختيار “محمد شرنوبى” للعب دور “حسين الزهار” فى شبابه، وخصوصا وهو فى طور أبوّته، ورجوعه من الخليج، ولبسه للنظارة والقبعة!

أما “آسر ياسين” و”محمد ممدوح” فالحقيقة أنهما أضافا لنفسيهما خانة محترمة ستظل عالقة فى تاريخهما الفنى، من خلال دوريهما فى فيلم “تراب الماس”.

_ موسيقى “هشام نزيه” جاءت بديعة كالعادة، ساعدت فى مضاعفة أثر كثير من مشاهد الفيلم، فاستخدام ايقاع دقات الساعة، وتوظيف آلة القانون، أدوات جديدة يلجأ لها “هشام” ليلائم طبيعة الفيلم التشويقية التى لا تخلو من العتاقة.

_ بجملة ميل السيناريو للمصادفات الكونية، جاءت تلك الصورة الفوتوشوبية المظهر، المُدوّن عليها التاريخ ببنط عريض يشبه بنط كتابة إعلانات كوبرى أكتوبر، لتخبرنا قبل أن تخبر “طه” بأن “هانى برجاس” لم يكن فى مصر كما أخبره “وليد سلطان”.