أحد عشر كوكبًا (4): محمد رفعت: ستار الأنوار الذي غمر أهل الأرض

محمد حسن الصيفي

في هذه السلسلة يقدم لكم إعلام دوت أورج “أحد عشر كوكبًا” هم أعلام التلاوة في مصر والعالم الإسلامي، لم يخل بيت في مصر والعالم العربي من أصواتهم وتلاوتهم .. تجمعنا بأصواتهم ذكريات طويلة ومواقف لا تُنسى، نحاول الدخول إلى تلك المجموعة من الكواكب الساطعة التي أضاءت العالم من حولها من خلال تاريخ ومواقف سطروها بحروفٍ من نور.

نرشح لك – أحد عشر كوكبًا (3).. عبد الباسط عبد الصمد: عالميّ الصوت والصورة

45: 6 صباحًا

طفل صغير يسير في حيّ البغالة يحمل حقيبته المدرسيّة على ظهره، يركل طوب الأرض بقدمه، يركل إحداهن بعنف مسددًا إياها على المرمى “أحد بيوت الحي” فتُحدث صوتًا صارخًا، يستيقط الشيخ على أعقابه، ويفر الطفل هاربًا، يفتح فلا يجد شيئًا، يبتسم ثم يغلق الباب ويذهب ليتوضأ.

7 صباحًا

يخرج إلى شرفته ليقرأ القرآن، يضع مصحفه بين يديه، يبدأ في تلاوة سورة الفتح “إنا فتحنا لك فتحًا مبينا”.

الصوت ينتقل عبر الأجواء، ينتقل إلى كل الإذاعات، كل المحطات، في السيّارات، في البيوت، في بحري.. وفي أسيوط.. إلى لندن.. برلين.. إلى بيروت.

نرشح لك – أحد عشر كوكبًا (2) أبو العينين شعيشع: الكروان صاحب المسيرة الإستثنائية

يكمل الطفل المشاغب طريقه إلى المدرسة بعد أن خفق قلبه كثيرًا من الركض، لا يزال يصوّب الطوب الذي يراه في الشارع، فينتبه لصوت الشيخ الجليل، يسمع أصداءه عبر كل الأماكن التي يمر بها كأن مذياعًا عملاقًا مُثبّت في جو السماء يسدل هذا الصوت كستار يغطّي الأرض بخيوطٍ من نور، الأصداء تلاحقه من منزلٍ إلى منزل، ومن شارع إلى شارع، المحلات المفتوحة، المقاهي، حتى المحلات المغلقة، يقترب منها بهدوء فيسمع نفس الصوت فيفر هاربًا خوفًا من أن يفتح أحدهم المحل ويخرج ليعاقبه على فعلته الصباحية!

حكاية صوت تعرفه الملائكة قبل البشر

قبل أربعة أشهر من معركة التل الكبير 13/9/1882، وقبل أصوات المدافع وطلقات الرصاص والصراخ والعويل، وقبل أن يصل الاحتلال إلى القاهرة كان على مصر أن تقوم بتحضير صوت آخر للمستقبل، بديلاً عن أصوات القنابل والرصاص وعويل الحرب من الأساس.

وتمخضت مصر فولدت عملاقَا، أحد أنجح عمليات الولادة في التاريخ، وبالتحديد في التاسع من مايو من نفس العام، وبعد أن ولدته وتركته في أحد الأحياء الشعبية .. تحديدًا في حيّ المغربلين، يستمتع بدفء البشر، يختلط بهم، ليعرف كيف يعيشون، تلتقط عيناه كل التفاصيل الخاصة بهم، تمتحنه بالصعوبات، يرى الانتصارات والانكسارات فور ولادتها على الهواء مباشرةً قبل أن يبدأ واحدة من أهم وأعظم العمليات في التاريخ.

وبالفعل رأى وسمع، وأحس كيف تدور المشاعر في مطابخ الأوطان، والأهم أنه تذوقها، ولم يكتف بالتذوق فقط، بل أغرق حنجرته بها، فتشبع الصوت وعرف كيف يعبّر عن الحزن والألم، كيف يخرج الشجن في تفاصيل بالتأكيد لن تراها، لكنك تسمعها جيدًا.

الفصل الأول

يولد الطفل الجميل، لكنّه يصاب في حبيبتيه وهو ابن سنتين، تتداخل الروايات، يقال إنه حسدته امرأة، ويقال إنه أصيب بداء غريب، لكنه في كل الأحوال فقد نظره وهو في مهد الطفولة.

وبما أنه لا محالة سيصعد للسماء فكان لا بد أن تسبقه عيناه لترى الجنة.

“إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبدِي بحبيبتَيْهِ فَصبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجنَّةَ”

وبما أنه مكتوب عليه أن يكون عظيمًا، وبما أن صوته لابد أن يصل لأبعد مكان، ذهب النظر ولمعت الحنجرة، وعاش الطفل واستمرت حياته وتوجهت نحو المسيرة المنتظرة كما اتفق القدر ورؤية مصر.

وجهه والده “المأمور” من السماء لحفظ القرآن فأتمه وهو في الخامسة، قبل أن يرحل وهو “مأمور لقسم الخليفة” ويسبقه إلى الجنة وهو لا يزال طفلا في التاسعة من عمره ليجد نفسه في مهب الريح، لكن منذ متى وحافظ القرآن يضيع؟!

تحمل الصغير المسؤولية، تراقبه مصر المشغولة بأحداثها الجسام وتنظر إليه بحنو، ويعده القدر والمستقبل بتاريخ لم يتكرر .. لكن قبلها عليه أن يعمل ويصبر.

وبالصبر حفظ القرآن ودرس القراءات والمقامات الموسيقية، ومن براعته وحنجرته المذهلة بدأ يكبر ويبدع في إحياءه لليالي وهو في الرابعة عشر من عمره، وفي الخامسة عشر أصبح قارئًا بمسجد فاضل باشا ففتحت له الأبواب، وقصده الناس يقفون أمام موهبته بوقارٍ وإجلال.

والشيخ لا يزال صابرًا متطلعًا لوعد السماء، فلم يكتف بما وصل إليه في سنٍ صغيرة، فتعمق في الموسيقى، فسمع بيتهوفن وموتزارت وفاجنر .. وعديد من السيمفونيات والكلاسيكيات التي كان يقضى أجمل الأمسيات معها سماعًا واستمتاعًا ودراسة، فترك خلفه إرثًا فنيًا كبيرًا في مكتبته لا يقدر بمال، وأفادته تلك الأمسيات والسهرات والدراسات المتعمقة بصفاء ونقاء على صفاءه ونقاءه، ومنحته مزيدًا من الحس المرهف والإبداع والإقناع، ولم يكتف بذلك، بل أقام صالونًا أدبيًا وفنيًا يحضره أفذاذ العصر، مثل عبد الوهاب وكامل الشناوي وأحمد رامي .. وغيرهم.

والشيخ طامعًا فقط في العلم والفن وحب القرآن وخدمته، تروى عنه الأساطير في الزهد وترك المال، فمرة يرفض خمسة عشر ألفًا نظير ذهابه للهند، وأخرى ما يعادل خمسين ألفًا ليذهب لأوروبا وفي كل مرة يرفض… وكيف يقبل بن المغربلين حبيب الفقراء والبسطاء، حبيب الشعب وكيف يتركهم ويرحل ؟!

1934

وبينما يصعد هتلر ليصبح رئيس جمهورية ألمانيا، وموسوليني يهدد باغتيال لاعبي المنتخب الإيطالي إن لم يحققوا كأس العالم، وبينما تنتخب المكسيك رئيسها لازارو.. تقوم مصر بعمل لا يقل هو الآخر تأثيرًا نفس العام  تقوم بافتتاح الإذاعة وتفي بالعهد مع ابنها الدؤوب فيقوم بافتتاح البث للإذاعة بصوته وهو يتلو آيات سورة الفتح “إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا”.

 

الطفل الصغير يعود

بعد أن يقلق الطفل منام الشيخ ويصل إلى مدرسته ليجده لا يزال يردد آيات سورة الفتح عبر الإذاعة، تمر الأيام ويكبر ويصبح كاتبًا، يقوم بتحضير الفصل الأول من كتابه عن الشيخ محمد رفعت في رمضان، يجلس على مكتبه في وسط المدينة بالقاهرة، ويتبقى على الآذان دقائق، وصوت الشيخ لا يزال يصدح بسورة الفتح، تدمع عيناه وهو يتذكر وفاته، الأوراق..

يتذكر أنه لم ينه الحكاية بعد فيسارع لإنهاءها قبل الأذان.

النهاية

أصيب الشيخ بمرض الزغطة “سرطان الحنجرة” وتوقف عن القراءة، ورفض أن يعينه أحد أو يقدم له المعونة فرحل بمرضه وصبره ومسيرته التي لم تتكرر لغيره، وصوته الذي نسمعه قبل أي شيء في الصباح، وقبل أن نضع شيئًا في أفواهنا ونحن صائمون، رحل الشيخ في نفس التاريخ الذي جاء به إلى الدنيا، قضى نحبه وأوفى بعهده مع وطنه ومحبيه وأهله وسمع صوته العالم بأكلمه فكان خير سفير، وخير معين، فما فشلت فيه الثورة والسياسة والدبلوماسية أفلح فيه الشيخ فوصل صوته إلى قلب إنجلترا.

توفي الشيخ في التاسع من مايو 1950 عن عمر يناهز ثمانية وستين عامًا.