حسين عثمان يكتب: ديوان الأهرام

صخب الدنيا وما فيها زاد إلى حد أن صار الهدوء عملة نادرة، والاحتفاء بما تحمله من قيم حقيقية عملة صعبة، وبقدر ما زاد هدير الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية في بلاط صاحبة الجلالة، بقدر ما قل ما يستحق التوقف عنده من إنتاج مختلف هذه الإصدارات، وفي دوامة صحافة يومية وأسبوعية ودورية شهرية أو ربع سنوية، شاملة أو متخصصة، قومية أو حزبية أو مستقلة، ومعها دوامة تطبيقات تكنولوجية حديثة ومتطورة أكلت الوقت بشراهة ما وفرته، أصبحت تجاهد حتى تختلي بنفسك خلوة قراءة يومية، لا تزال معتادة عند القابضين على جمرها في الزمن الأصعب، وتكون المتعة الحقيقية حين تنتهي من القراءة، فتجد أن وقتك لم يذهب هدراً، وفي الأوهام أبداً لم يضع عمرك.

نرشح لك.. قريبا.. صدور “عمارة الحاج رمضان” لـ أحمد يونس

ومن سلة القيم الحقيقية، وفي زمن ندرة القيم، اخترت أن أتوقف بكم لنشارك مجلة “ديوان الأهرام” الاحتفال بعيد ميلادها الثامن، لا تندهش إذا كنت تعرف عنها لأول مرة، رغم سنوات الصبا التي تعيشها المجلة هذه الأيام، ولا تستسلم لدهشتك حين تنتبه إلى صدورها عن مؤسسة الأهرام، المؤسسة الصحفية القومية الأعرق في بلاط صاحبة الجلالة، عود نفسك ألا يجهدها التفكير فيما عدى وفات، واهتم فقط بما هو آت، فأن تأتي متأخراً أفضل من ألا تاتي أبداً كما قال الحكماء الأولون، وأن تعرف الآن عن مجلة ربع سنوية، متخصصة في دوائر الهوية والتاريخ والثقافة والتراث والوثائق، أفضل من ألا تسمع بها أبداً.

مسح سريع على العدد الاحتفالي الصادر مطلع هذا العام، يضع أمامك بوضوح قيمة مجلة “ديوان الأهرام”، ويكشف عن أهمية رؤية ومهمة ورسالة وقيم وأهداف منهج عمل المجلة، الثابت لا يتغير حتى لو تعاقب على رئاسة تحريرها عدد من المهنيين المحترمين المحترفين بحق، فهي بالفعل الإصدار المناسب في الوقت المناسب، صدر العدد الأول منها في يناير 2010، وكأنها تقرأ طالع وطن وما ينتظره من عواصف هددت ولا تزال هويته واستقراره وحاضره ومستقبله، وشككت ولا تزال في ماضيه ورصيده وجذوره وتاريخه.

افتتاحية رئيس التحرير الهمام زينب عبد الرازق، طرحت قضيتين في غاية الأهمية، الأولى ناقشت فقدان العرب الملكية الفكرية، بعد أن كان التاريخ زاخراً، وإلى أن صار الحاضر مؤلماً، وحتى أصبح المستقبل غامضاً، بينما وجهت في القضية الثانية دعوة خالصة إلى القائمين على أمور صاحبة الجلالة، بأن يخصصوا مساحات يومية أو أسبوعية ثابتة، لإعادة نشر تراث صحفي ثري، علم أجيالاً وراء أجيال، وتفتقد مثيله الأجيال الجديدة.

من هذا التراث حوارات مع المبدعين في سالف العصر والأوان، ومنه أن تعيد جريدة الأهرام نشر مقالات الكبار عباس محمود العقاد وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم ولطفي الخولي، وتعيد “أخبار اليوم” نشر مقالات علي ومصطفى أمين، وتنشر “الجمهورية” من جديد مقالات كامل زهيري ومحمد العزبي، وهكذا مجلات روزاليوسف والمصور وآخر ساعة، واستشهدت زينب عبد الرازق في طرحها بقناة “ماسبيرو زمان”، بما تحمله من المعنى ذاته.

وعبر عدة موضوعات توالت في رشاقة على صفحات العدد، قرأت عن قدرة القدس على الصمود، وقدرة الذاكرة العربية على إحياء عروبة القدس، الملف يعرض لرؤى تاريخية بشأن القضية، تبدأ بحوار شهير أجراه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر مع مجلة الأوبزرفر البريطانية، أكد فيه أن القضية الأساسية في العالم العربي والشرق الأوسط هي فلسطين، وأن لا أحد في العالم يملك منع الفلسطينيين من الكفاح لاسترداد وطنهم.

وبعده وثيقة علمية فند فيها العالم الكبير الراحل جمال حمدان أكاذيب الصهيونية العالمية، رداً على الكاتب الفرنسي الشهير سارتر حين دعى لحق إسرائيل في الوجود، ثم قراءة تاريخية للمؤرخ الكبير الراحل د. حسين مؤنس، وعرض لكتاب المستشرقة البريطانية كارين آرمسترونج “القدس مدينة واحدة وعقائد ثلاث”، وجاء الشعر مسك الختام بقصيدتين للراحل الكبير محمود درويش، من ديوان صادرته إسرائيل عام 1967، ونشرته وقتها مجلة الهلال المصرية.

وحول مئوية ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر، جاءت دراسة المؤرخ الكبير د. عاصم الدسوقي، قبل أن تتهادى تنهيدة من القلب، وأنت تقرأ عن الأرستقراطية الدلوعة شادية، أو يعود بك الزمن 40 عاماً لتقرأ عن جريمة قبرص، جريمة اغتيال فارس الرومانسية يوسف السباعي، أو جريمة اغتيال السياسة للأدب، وبعده تعيش ذكرى مرور قرن ونصف على ميلاد ملك مصر وسيد النوبة وكردفان ودارفور، فؤاد ملك التناقضات الكبرى.

ومن الأرستقراطي الثائر الزعيم محمد فريد، إلى صحافة زمان التي تعرف معها أن برما ليست مجرد حسبة، وإنما هي قرية ذائعة الصيت في طنطا، تشتهر بتفريخ الكتاكيت والإتجار بالبيض، ومروراً باليهودي المؤمن كارل ماركس، والجنرال الذهبي عبد المنعم رياض، وحكاية أول رحلة جوية بربع جنيه على خطوط مصر للطيران، واليوبيل الماسي لميلاد السندريلا سعاد حسني وحكايات لا تنتهي عن خصوصية علاقتها بالعندليب عبد الحليم حافظ.

تأبى أمارات الدهشة والمتعة والسعادة أن تغادر روحك وملامحك، إلا قبل أن تقرأ ملفاً كاملاً عن الانفصال المستحيل عن الوطن، كردستان في العراق، وكتالونيا في إسبانيا، يشكلان محوري الملف، ولكن هذا لا يمنع مفاجأة القاريء، باستعراض حياة الأكراد في مصر، ليعرف ربما لأول مرة، أن عددهم مليون نسمة، ويحتفظون بتقاليدهم حتى اليوم، وتكتمل متعة المعرفة عن الأكراد المصريين، بتناول التاريخ المجهول لأشهر العائلات الكردية المصرية.

وبقدر ثراء مجلة “ديوان الأهرام”، والمتعة الفكرية والفنية والثقافية، التي تخرج بها في كل مرة تعيش معها بعضاً من وقتك، بقدر ما يصدمك فقر موقعها الإلكتروني، باعتبار النشر الإلكتروني لغة العصر، فحين تذهب إليه بغرض البحث عن ملفات وموضوعات أخذت مساحاتها من النشر في أعداد سابقة، أو حتى مواد صحفية متجددة، لا تجد هناك إلا بعض محتوى آخر أعدادها المطروح في الأسواق، وهو ما يدعونا إلى توجيه الدعوة إلى مؤسسة الأهرام، لمنح المزيد من الاهتمام المصحوب بمزيد من الدعم والموارد لمجلة “ديوان الأهرام”، فما أحوج مصر والمصريين إلى الحفاظ على الهوية، والمجلة والقائمون عليها، يقومون بدور فعال في هذا المجال.