The Post.. الصحافة تقود ولا تُقاد

إيهاب التركى- نقلا عن المقال

كان السيناتور الأمريكى المخضرم دانييل باتريك مونيهان يتناقش مع سيناتور أخر أقل منه ثقافة وحجة، وثار الأخير، وأنهى المناقشة قائلاً: “حسناً، يا سيناتور مونيهان، هذا رأيك أنت فقط، وأنا لى رأى مختلف”، لكن مونيهان رد قائلاً: “سيدى، من حقك أن يكون لك رأيك الخاص، ولكن ليس من حقك أن تكون لك حقائقك الخاصة”. الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما كان شاهد عيان على هذه الحكاية، ورواها للإعلامى الأمريكى ديفيد ليترمان فى برنامجه الجديد My Next Guest Needs No Introduction «ضيفى القادم لا يحتاج تقديماً»، وكان أوباما الذى ترك الحكم قبل عام يشير إلى تناقض الحقائق فى الإعلام الأمريكى الحالى، فى ظل قيادة خلفه دونالد ترامب.

هذا الأمر، مع الإحالة إلى حكاية من التاريخ القريب، هو جوهر ما يطرحه المخرج ستيفن سبيلبرج فى فيلمه الأخير The Post «ذا بوست»، والعنوان بشكل مباشر للغاية يشير لإسم الصحيفة الأمريكية الشهيرة، التى تمكنت من كشف أكاذيب دأبت عدة إدارات أمريكية متعاقبة على تقديمها للمواطن الأمريكى على أنها حقائق، ونشرت الصحيفة “أوراق البنتاجون”، وهو تقرير سرى للغاية، قام بتسريبه موظف مدنى يعمل بوزارة الدفاع الأمريكية للصحافة، يكشف فيه عدم جدوى حرب فييتنام، وهزيمة الجيش الأمريكى، وأن إستمرار المعارك لسنوات كان مجرد مكابرة وعناد عسكرى وسياسى بلا طائل.

أزمة الصحافة فى كل زمان ومكان هى تعامل الأنظمة الملتبس مع الحقيقية، وفبركة حكايات بديلة لحقائق محرجة للحكومة، ثم الدفاع عن هذه الأكاذيب، ومعاقبة الصحافة حينما تكشف الحقيقة، وكلما كانت الحقيقة مُحرجة، كلما تعللت السلطة بحجة خرق الأمن القومى، وتعريض الدولة للخطر، وتلك الحجج تستخدمها السلطة غالباً كغطاء لعقاب الصحيفة، وترهيب كل صحفى ينشر الحقيقية.

حكاية تسريبات البنتاجون فى السبعينيات، لا تختلف كثيراً عن تسريبات إدوارد سنودن فى الألفية الثالثة، لكن الحكاية فى «ذا بوست» تذهب للتاريخ القريب، وهذا يمنح الفكرة عمق أكثر، فما نعيشه حالياً لا يختلف عن وقائع تاريخية سابقة، لكن فى سياق تفاصيل وأجواء زمنية مختلفة، وأجواء التاريخ بتفاصيل الزمان والمكان والأزياء جزء من عالم ستيفن سبيلبرج الذى يهوى رواية كثير من حكاياته بالعودة للتاريخ، وهذا يتيح له إعادة خلق عالم إنتهى، ولم يعاصره متفرج الألفية الثالثة، وهو المتفرج الذى عاصر تسريبات ويكيليكس، وإدوارد سنودن، وهى تسريبات إعتمدت على وسائل ثورية للوصول لأكبر عدد ممكن فى وقت قياسى، ولهذا رواية الحكاية فى زمن الهاتف الأرضى، والجريدة المطبوعة، والكتابة على الآلة الكاتبة، يجعل السرد أكثر درامية، وما يمكن نشره الآن بالضغط على زر، كان يحتاج لأيام وأجهزة ومعدات، لكن محور الدراما الرئيسى، والأهم، هو الإنسان، وصراع القيم والمبادىء مع السلطة الغاشمة التى تفتك بمن يعارضها بكل نفوذها.

رئيس تحرير الواشنطون بوست فى بداية السبعينيات بن برادلى (توم هانكس) يرى أن الطريقة الوحيدة لحماية حقوق النشر، هى النشر، ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، خاصة حينما يضغط الرئيس الأمريكى الكاره للصحافة ريتشارد نيكسون على الصحف لوقف النشر، أو الذهاب للقضاء.

الصحف ليست مجرد مبانى، وصحفيون، ومكاتب، بل هى كيانات حية، تضم بشر، لديهم مشاعر الخوف على المستقبل، والحرص على مصدر دخلهم، ولكن تأتى لحظات فى مهنة الصحافة يجد الصحفى والناشر أنفسهم على المحك، فالناشرة كاى جراهام (ميريل ستريب)، وريثة صحيفة الواشنطون بوست لديها إرث تحبه وتتباهى به، وترغب فى الحفاظ عليها، ومسؤوليات مادية وقانونية، وكذلك رئيس التحرير الجرىء بن برادلى، وكلاهما يصارع الضغوط بين المسؤولية المهنية، والرغبة فى الحفاظ على كيان الصحيفة من الإنهيار، ورغم تصوير سيناريو ليز هاما وجوش سينجر شخصية كاى جراهام كشخصية مترددة، خائفة من مواجهة البيت الأبيض، إلا أن حبها الأصيل للصحافة، وإيمانها بدورها يجعلها تتجاوز ضعفها فى الأوقات الحاسمة.

الفيلم بطولة مجموعة من نجوم التمثيل، منهم ميريل ستريب، التى جسدت شخصية إمرأة لم تتحمل يوماً مسؤولية كيان صحفى، وأدت ستريب هذه الشخصية بكل ضعفها وبكل حبها وإيمانها بالحقيقة، ومنحتها زاوية إنسانية خاصة، فهى ليست شخصية ثورية بعكس رئيس التحرير بن برادلى (توم هانكس)، لكنها تؤمن بقيمة الصحافة ودورها، ويجسد بوب أودينكيرك شخصية الصحفى الدؤوب بن باجديكيان، الذى يستطيع الحصول على الوثائق كاملة، وهو شخص أقرب لمحقق بوليسى غامض.

أغلب أحداث الفيلم تتم فى صالة التحرير، فى مكاتب صاخبة، تضم عشرات من الآلات الكاتبة التى تعمل بلا توقف، الأجواء متوترة، والكل يتحرك بسرعة، التمثيل بلا شك هو أهم عناصر العمل، والجدل والنقاش هو مادة الكاميرا، وهى الماء الذى يتدفق ويصنع الدراما، والإثارة، ولحظات الذروة تتعلق دائماً بحكاية الصحافة والنشر، وليس التفاصيل داخل الأوراق، والفيلم بأكمله يقدم تحية للصحافة، ودورها فى كشف الحقيقة، وشجاعة رجالها ونسائها، كما لا يغفل الإشارة إلى دور القضاء فى حماية الصحافة، وحقها فى نشر الحقائق للرأى العام، وحقها فى قيادة وتنوير الرأى العام.

لا يمكن إغفال الإشارات التى ضمنها سبيلبرج بالفيلم حول تعامل إدارة ترامب مع الإعلام، والتشابه بين أسلوب نيكسون وترامب فى التعامل بصفاقة مع الصحافة، ومنذ المشهد الأول بالفيلم نتابع رفض رئيس التحرير تغيير الصحفية المكلفة بتغطية حفل زفاف إبنة الرئيس بناء على طلب البيت الأبيض، لأن الصحفية هاجمت سياسات الرئيس فى مقالات سابقة، وإختار سبيلبرج تقديم مشاهد نيكسون كظل بعيد من خلف نافذة البيت الأبيض، وصوت غاضب مشوش يتحدث فى الهاتف غالباً، وكأنه شخص شرير فى حالة تآمر.