محمود الدسوقي يكتب: سواكن محافظة مصرية في الوثائق القديمة

حين تكتب عن مدينة سواكن التي تم تسليم إدارتها لتركيا مؤخراً من قبل السودان، عليك أن تتذكر آلاف الأرواح المصرية التي عمرت هذا الميناء والذي كان من ضمن المحافظات المصرية التي تشرف عليها مصر في القرن التاسع عشر بناء علي آلاف الوثائق المصرية.

ولأن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانًا لا مباليًا، ذو أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيز، كما يقول الفيلسوف الفرنسي باشلار في كتابه شاعرية المكان؛ فإن سواكن التي عاش بها المصريون زمناً تجعل الانجذاب نحوها أمراً مهماً جداً.

هنا كان يمتد خط سكك الحديد طريق سواكن- الإسكندرية وهنا عبر العمال المصريون من أسوان لشق جبال كان يبلغ ارتفاعها نحو 4 آلاف قدم وهناك كان يجلس ضابط مصري يمنع مرور السلاح والمخدرات والدخول للمدينة الإستراتيجية بناء على وثائق وزارة الداخلية المصرية في عام 1906م التي أوردت بنداً مهماً في كيفية قيام الضباط بدورهم في منع التهريب.

وارتبطت سواكن بالكثير من الأساطير من قبل الغزو العثماني لها في القرن السادس عشر في عهد سليم الأول والذي ارتبط بمذابح مخيفة ومرعبة وقتل للسكان حسب ما أورد موقع العربية نت، طبقاً لما أورده الكثير من المؤرخين الذين رصدوا سيرة الغزاة العثمانيين وبالأخص سليم الأول الذي كان لا يتورع عن ترك آلاف الجثث مرمية في الطرقات تتبول عليها الكلاب مثلما حدث في الغزو العثماني لمصر واستباحتهم للقاهرة.

نرشح لك: محسنة توفيق.. مشاغبة في حب الوطن والفن

وتقول الأساطير عنها أن سيدنا سليمان عليه السلام أمر بأن تكون سواكن مأوى المجرمين من الجن الذين اتهموا بهتك عرض 70 جارية، حيث قام ملك الحبشة بإهدائهن إليه حين استرحن في طريقهن بسواكن. إلا أن المؤرخين يؤكدون أن اسم سواكن ليس مرتبط بأسطورة جن الملك سليمان.

واستمرت سواكن محافظة مصرية وتشرف على إدارتها مصر حين قام الباب العالي بالتنازل عنها نظير مبالغ مالية كانت تدفعها مصر. وفي عهد الخديوي إسماعيل قام المصريون بحركة تعمير هائلة في المدينة الإستراتيجية سواكن وكانت تشرف حامية مصرية على مينائها الشهير وقامت مصر بإنشاء محطة مياه تحلية بها بالقرب من مينائها الشهير.

بناء على الكتاب النادر “ضحايا مصر في السودان وخفايا السياسة الإنجليزية”، وهو الكتاب الذي ألفه باحث لقب نفسه “محزون” وطبع على نفقة الأمير عمر طوسون في ثلاثينيات القرن الماضي، فقد ضم الكتاب رصد الإحصائيات عن الضحايا المصريين في السودان الشقيق منذ أحداث الثورة المهدية والتي قتلت آلاف المصريين.

في أحداث الثورة المهدية كانت سواكن هي المدينة الوحيدة التي لم تبارحها القوات المصرية ولا العاملون في مينائها، وبعد أن استرد الجيش المصري السودان بالكامل من براثن المهدية عام 1899م نصت الاتفاقية المبرمة أن تكون حدود مصر الجنوبية عند خط عرض 22 شمالاً أي حلايب وشلاتين، ويتضمن هذا الاتفاق كيفية إدارة السودان «المشترك»، وأكد أن «سواكن» لا تدخل ضمن هذا الاتفاق لسبب واحد هو أن الجيش المصري الذي كان يؤمن أرض السودان لم ينسحب من سواكن خلال أيام الثورة المهدية، وظل صامداً، وبذلك -كما نصت هذه الاتفاقيات- ظلت أرضاً مصرية.. خالصة.(انظر مقال عباس الطرابيلي المهم في المصري اليوم)

وأورد كتاب محزون أرقام الضحايا من عام 1881م إلى نوفمبر 1899م، وكذلك ما أنفقته الحكومة المصرية من أموال طائلة، لإدخاله في دائرة التحديث والعمران ونبذ التخلف عنه، وهو كتاب يورد بالإحصائيات مجهود مصر الكبير في دفع حركة التعمير في وطن اسمه السودان كان يعتبر بلداً واحداً لمصر.

بعد احتلال مصر سيطر الإنجليز على جهاز الشرطة، وقاموا بتقييد مئات المعارضين بالسلاسل الحديدية في إفريقيا من رجال الشرطة والجيش المصريين؛ حيث أوقعوا عليهم حكمًا بالسجن مدى الحياة وقبع رجال الشرطة والجيش المنتمون لثورة عرابي في مدن هرر بإثيوبيا التي كانت تابعة لمصر وكذلك قازوغلي وسواكن بالسودان، كما يؤكد الدكتور والمؤرخ الكبير عبدالوهاب بكر في كتابة “تاريخ البوليس المصري”.

قام الإنجليز المحتلين للبلاد بتكوين جيش من المعارضين المصريين المنفيين وأغلبهم ضباط شرطة وجيش لمقاتلة الثورة المهدية في السودان التي رفعت شعار التخلص من المصريين والأتراك، ليواجهوا الموت من بنادق المهدية وسيوفهم الحادة وبعضهم تاه في الأدغال فافترسته أسود الغابات المتعطشة للحم البشري.

وتعج وثائق ملفات الإجرام بعد دخول الاحتلال الإنجليزي لمصر وحالة الفوضى التي انتابت البلاد بالكثير من قصص النفي لسواكن، مثل الوثيقة المحررة في يناير من عام 1889م والتي كانت تخص المواطن صالح أبوزيد حيث كانت عقوبته وضع الحديد في أقدامه -وهي عقوبة فكرتها إنجليزية في ذلك الوقت-وسجنه في سواكن التي كانت حين تُنطق تقشعر الأبدان من ذكرها وتنسحب الروح من الأوردة وتصاب بالهلع.

ويقدم إعلام دوت أورج منشور نادر له 135 سنة تم نشره في الصحف المصرية الصادرة في القرن التاسع عشر والتي كانت ترصد معارك استرداد مصر للسودان من براثن المهدية لتقسيمات الإدارة المصرية وهو المنشور الذي رصد محافظات مصر في السودان “سواكن” وإثيوبيا وهي هرر والصومال وهي بربرة وإريتريا وهي مصوع.

يقول المنشور “نحن خديوي مصر بعد الاطلاع على أمرنا الصادر بتاريخ 3 ربيع الثاني سنة 1299م وبناء على ما عرض لطرفنا من ناظر الأقاليم السودانية وملحقاتها بموافقة رأي مجلس نظارنا قررنا ما هو آت:

المادة الأولي صار تقسيم السودان إلى أربعة أقسام كالآتي بيانها القسم الأول يسمى بحكمدارية إقليم غرب السودان ومركزها الفاشر وتكون عموما لمديريات دارفور وكردفان وشكا وبحر الغزال ودنقلة.

القسم الثاني يسمى بحكمدارية إقليم وسط السودان ومركزها الخرطوم وتكون عموما لمديريات الخرطوم وسنار وبربر وفشودة وخط الاستواء.

القسم الثالث يسمي بحكمدارية عموم شرقي السودان وتتركب من التاكا وملحقاتها ومن محافظتي سواكن ومصوع وملحقاتها إلي باب المندب.

القسم الرابع يسمي بحكمدارية عموم هرر وملحقاتها وتتركب من مديرية هرر ومحافظتي زيلع وبربرة وملحقات الجهات المذكورة ويكون مركزها هرر مع بقاء المحافظين بكل من محافظتي زيلع وبربره لأهمية وجودهما.

المادة الثانية ناظر الأقاليم السودانية وملحقاتها مكلف بتنفيذ هذا الأمر الخطاب الأمر العالي صادر في إبريل عام 1882م.