حسين إسماعيل يكتب: الثورة الزيدانية تشتعل بمنزل خالد جلال

يقول الدكتور يوسف زيدان في شجونه الفكرية (إعادة بناء المفاهيم) عن الثورة الثقافية: “إنها هي الحركة المجتمعية الرافضة ذهنيا للتدهور والانهيار، وهي المبادرة الهادفة إلى تغيير ما استقر في المجتمع من أفكار عامة وأمور اعتقادية يسميها البلهاء والخبثاء (الثوابت)، ويدافعون عنها لارتباطها الوثيق ببلاهة البلهاء ومصالح الخبثاء، دون عناية أو انتباه للحقيقة البسيطة التي تقول إن هذه الثوابت هي في واقع الحال (كوابت) تعوق المجتمع عن الارتقاء، وترسخ بالناس في قاع التخلف الحضاري”. ويستكمل موضحًا من هم الأشخاص الذين عليهم أن يقوموا بالثورة الثقافية فيقول: “الرواد من صفوة المجتمع”؛ مؤكدًا أن الرواد هم “المفكرون والفنانون الملتزمون تجاه المجتمع“.

و يتساءل الدكتور يوسف زيدان: “لماذا انهارت منظومة القيم في مجتمعنا، فأمست (الفلهوة) بديلا عن الاتقان، وصارت (الوصولية) مكان الالتزام، وسادت (السفاهة) في مواضع الجدية، فكيف يمكن أن ينضبط السلوك العام إذا كانت الأفكار المحركة له في حالة فوضى؟.

و يقول د. محمد حمدي إبراهيم في كتابه (نظرية الدراما الإغريقية)  متحدثًا عن الكوميديا على أنها “وسيلة من وسائل نقد المجتمع”، بمعنى أن الإنسان عليه أن يسخر من القبيح بعد أن يراه متجسدًا أمامه على المسرح؛ القبيح الصادر منه، يرى عيوبه فيسخر منها فيقرر أن يغيرها.

هكذا سار خالد جلال على دروب الثوريين، فثار ثورة زيدانية بنظرية إغريقية، في محاولة جادة وحقيقية لتغيير الأنماط السيئة في المجتمع المصري.

صنع مدينة أفلاطونية يسكنها صفوة البشر في زمان غير زماننا ومكان غير مكاننا؛ مدينة لها قواعدها المنضبطة، سلالة أفلاطونية خالية من التشوهات، يتسلل إلى عالمهم مواطن مصري من الذين تراهم يوميا في شوارع (المنحوسة)، من الذين يبثون سموهم أينما وجدوا. وأثناء تسلله تقبض عليه شرطة المدينة الأفلاطونية ويضعونه محل تحليل وفحص ومحص ويفتحون الملفات الكامنة بعقله. ويا هول ما يكتشفون؛ أمراض عقلانية يصاحبها تشوهات لسانية مغمسة في خليط من الأوبئة الذهنية.

يقرر مجلس علماء المدينة الأفلاطونية قتل هذا الكائن إلا واحدة منهم، والتي تحارب من أجل إعطائه الفرصة لتبحث في ماضيه أو حاضره لعلها تجد ما يُنبئ بنتيجة مبدئية لعلاجه مما استقر به من مهازل أخلاقية. ويا هول ما رأت منذ أن فتحوا ملفات عقله، وياللمصيبة لكل من يلامسه أو يقترب منه.

لقد سار المخرج خالد جلال وفي يده سكين حاد وقام بتشريح المجتمع بالكامل وكشف عن عوراته، وعرى الصدأ الذي غطى على معادنه النفيسة، مجاهدا في مجتمع غرق في بالوعات أوهام العظمة والضمير؛ فلا هو عظيم ولا يمتلك حتى أدنى مفاهيم الضمير.

كل المجتمع في نظر خالد جلال مُذنب، ولهذا عليه أن يسلم نفسه، فالحقيقة التي لم يرها أحد أنك إن دخلت إلى صالة العرض، فأنت متهم ولهذا (سلم نفسك).

عرض مسرحي فني يفوق حد الروعة، محكم الصناعة، منضبط في طرح أفكاره، متماسك بين جميع ممثليه، فلا أحد يقف على أطراف أنانية الظهور، ولا خروج عن المتفق عليه بين أفراده. ساعتان ونصف لا يتسلل إلى وجدانك حالة ملل، بل تزداد شغفا لمعرفة المزيد عن ما سيحدث في المشهد الذي يلي المشهد، و تقع أسيرا لجمال الإضاءة في جميع مشاهدها، فلا يوجد خط إضاءة عبثي دون معنى، ولا ممثل يقف خارج دائرة الضوء المرسومة له. وللحظات، بل كل اللحظات، أنت تجلس أمام فيلم سينمائي، فما تسمعه أذنيك لم أسمعه من قبل في عرض مسرحي وأنا أشاهد مسرح منذ عشرين عاما، وأستطيع أن أصف أن الصوت في المسرحية -كما يقولون عنه في السينما “شريط الصوت”- مصمم بعناية وبدقة شديدة، فلا تسمع مثلا صوت طائرة ثابت، بل تسمعها فوقك وهي تتحرك لبعيد فلا ينقص إلا أن تراها.

حقيقة لم أشاهد من قبل 27 ممثلا على خشبة مسرح جميعهم بنفس المستوى الممتاز، فالطبيعي أن يكون هناك تفاوت. لكن ما رأيته حُفر في ذاكرتي؛ 27 ممثلا كلهم أبطال بلا استثناء، جميعهم في تسكيناتهم المناسبة، وكأن هذه حياتهم الطبيعية.

إن أسعد أيام حياتي، كان يوم الجمعة 15 ديسمبر، يوم حضوري لمسرحية (سلّم نفسك).