جون كاسن.. سفير بدرجة "إنفلونسر"

فاتن الوكيل

يحرص سفراء البلدان المختلفة على كسب ود واستمالة الشعوب التي يعملون بينها، وفي الوقت الذي يضع كل سفير أهدافا محددة لصالح بلاده يرغب في تحقيقها خلال فترة عمله، يعمل أيضا على أن تمر فترة تواجده في البلد الآخر بسلام وأن يترك أثرا طيبا لدى أهل البلد.

الشعب المصري من بين الشعوب التي تضع سفراء البلدان الأخرى، خاصة دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، تحت التقييم والمتابعة منذ اليوم الأول، نظرا للمواقف العدائية التي اتخذتها هذه الدول تجاه مصر على مدار التاريخ، فلا يخفى الموقف الأمريكي من العرب بشكل عام والمناصر للكيان الصهيوني، كما أن بريطانيا احتلت مصر لأكثر من 70 عاما وحاربتها في العدوان الثلاثي، ومازالت قيادات الإرهاب تحتمي بها، لذا فعليهم مع تغير الزمن والسياسات أن يكونوا أكثر تقربا ليس إلى قيادة الدولة المصرية فقط، ولكن إلى الشعب أيضا، وتتحول مهمتم من تحقيق تعاون حقيقي وأن يكونوا همزة وصل فعالة، إلى تجميل الوجه القبيح فقط.

نرشح لك: تعرف على جدول عروض “نتفليكس” خلال شهر ديسمبر

مع التقدم التكنولوجي الكبير ودخولنا عصر السوشيال ميديا، كان من الطبيعي أن يتجه سفراء تلك الدول إلى هذه المساحة المجانية لجذب الانتباه، ومن أبرز من استغلوا مواقع التواصل الاجتماعي لإثبات الوجود الشخصي، هو “جون كاسن” السفير البريطاني في مصر، الذي تولى مهمته في 2014.

“كاسن” ليس السفير الأول الذي يحاول استمالة المصريين من خلال إنشاء علاقة غير نمطية معهم، فنذكر من قبل السفير الأمريكي فرانسيس ريتشاردوني، الذي تولى في الفترة من 2005 وحتى 2008، والذي كانت الصحف والقنوات الفضائية تتابع سفره إلى طنطا دائما لحضور مولد السيد البدوي، وكتبت عن حبه للصوفيين، وجلوسه معهم في الموالد، لكن هذا لم يمنع الانتقادات الحادة التي وجهت إليه بعد ذلك مع توليه رئاسة الجامعة الأمريكية، فبدأت مواقع بعد 2011 تتحدث عن استخدامه لزيارة الموالد في ترويج صورة معينة عن نفسه، تناقض دوره السياسي في مصر.

وقد يقول كثيرون أن هذا أمر طبيعي من قبل أي سفير عليه أن يروج بشكل إيجابي لصورة بلاده، لكن مع جون كاسن سفير بريطانيا لا نجده معبرا على صورة بلاده، لا نجد اقترابا من القضايا الحقيقية التي يحمل بسببها الشعب المصري، غُصة تجاه بريطانيا، خاصة استمرار حظر السفر إلى شرم الشيخ، وهو القرار الذي اتخذته بعد إسقاط الطائرة الروسية في وسط سيناء، وأثر بشكل كبير على السياحة، ناهيك عن إيواء قيادات جماعة الإخوان الإرهابية في لندن، وتوفير الحماية لهم، لكنه يكتفي باستخدام لغته العربية الركيكة في إثارة ضحك وإعجاب متابعيه، ونشر صورا من حياته اليومية واحتفاله بالمناسبات المصرية المختلفة، حتى تحول من سفير إلى “إنفلونسر” يروج لنفسه على السوشيال ميديا.

والإنفلونسر هو شخص لديه حسابا على السوشيال ميديا عليه عدد كبير من المتابعين، ويمتلك بينهم نفوذا “معنويا” فمن خلال تغريداته وطريقة حديثه التي يجب أن تمتاز بخفة الدم، يُصبح مؤثرا ومحل ثقة الغالبية من متابعيه. وقد تناولت العديد من المواقع هذه الظاهرة وكيف استغلتها الشركات الكبرى في تسويق منتجاتها من خلال هؤلاء، فلا عجب إذا رأيت أحد المؤثرين على السوشيال ميديا، ينشر صورة من مطعم ما أو لهاتف جديد يستخدمه، ويبدأ في وصلة مديح للمنتج الجديد، فهو بذلك يحول نفسه إلى لوحة إعلانية ولكن من لحم ودم. أما في حالة سفيرنا الإنفلونسر، فهو بالفعل لا يفعل أقل من هؤلاء، لكن السلعة التي يروج لها هي “هو نفسه”، فنشاطه “المعلن” في مصر لا يخرج عن الترويج لنفسه كسفير شاب يطلق النكات ويحتفل بالأعياد المصرية الكثيرة التي تتميز بالفلكلورية دائما.

المثير للسخرية أن بمجرد كتابة اسم السفير “الإنفلونسر” على موقع “جيت إيميدج” لن تجد سوى العديد من الصور لمواطنين بريطانيين تكدسوا في مطار شرم الشيخ لمغادرة مصر عقب إعلان بريطانيا حظر الطيران إلى المنتجع السياحي الأبرز في مصر، والسفير البريطاني يقف أمام عدسات المصورين ليلقي بعض الكلمات التقليدية على الصحفيين، أما مع كتابة اسمه على محرك البحث جوجل ستجد أخبارا لا بأس بها عن نشاطاته الحثيثة في تعليق زينة رمضان وشراء حلاوة المولد والتعليق على مهارات محمد صلاح مع ليفربول.

استوفى “كاسن” جميع الشروط الواجب توافرها في الإنفلونسر، فهو يمتلك بحكم منصبه عددا كبيرا من “الفولورز” على تويتر، بالإضافة إلى أن كل “إنفلونسر” يعتمد في تغريداته على حس الفكاهة والسخرية، والحرص على النشر الدوري لصور من حياته بشكل جذاب، وخلق نقاشات طريفة مع المتابعين، وهذا كله يفعله كاسن بجدارة، وحتى الفعاليات الاقتصادية أو الاستثمارية يحرص كاسن على استخدام “هاشتاجات” ساخرة إلى حد كبير، أو الاكتفاء بإعادة نشر تغريدات من حسابات رسمية لوزارة الخارجية البريطانية.

“الإنفلونسر” يجب أن يُشعرك وهو في طريقه للترويج عن نفسه، بالفائدة الكبيرة التي يقدمها للبد الذي يعيش فيه، ليس بآرائه فقط، ولكن بالفعل أيضا، فيخرج علينا كاسن من وقت لآخر بتغريدات عن مساعي زيادة أعداد السائحين البريطانيين لمصر، أو نشر صورا للحظات تبرعه بالدم.

هناك عدة عوامل ساعدت على الترويج لـ”السفير الأنفلونسر” جون كاسن في مصر، من بينها “السن” أو العمر، فعندما ترسل سفيرا صغيرا في السن إلى بلد خرج شبابه في ثورة 25 يناير وهو يصرخ بأنه لا يجد فرصته العادلة، ويرفع لافتات “ارحلي يا دولة العواجيز” أنت بالتأكيد تقول لهم إن أمامهم مثال بريطاني لشاب أصبح سفيرا في بلادهم، وكل ما عليهم فعله هو الاقتداء والتأثر به، فهم في الحقيقة يتفاعلون معه، لأنهم يفتقدون لهذا النوع من التفاعل في بلدهم، وليس من باب الإعجاب بكاسن أو بمواقف بلاده.

السبب الآخر هو التواصل مع الإعلام والسوشيال ميديا، فعلى مدار سنوات طويلة عانى الإعلام المصري سواء صحافة أو تلفزيون –ومازال إلى حد كبير- من صعوبة التواصل بينه وبين المسؤولين، ويشعر بأنه خرج منتصرا إذا استطاع إيصال مناشدة أحد المتصلين، إلى المتحدث الرسمي لوزارات مثل الصحة والتموين وغيرهم. لكن في حالة جون كاسن، نحن مع شخصية هامة –من حيث المنصب وليس الشخص- يرحب دائما بالتواصل مع الإعلام ورواد السوشيال ميديا بشكل مستمر، وبالتالي يكون ضيفا على العديد من البرامج، التي تستقبله على أنه “الصديق السفير” وتمر المقابلة بابتسامات على لهجته العامية “المكسرة” مع بعض التصريحات التقليدية والحديث الإيجابي عن الأمل والتواصل بين الجميع الذي يحث عليه السفير البريطاني من وقت لآخر.

https://www.facebook.com/ukinegypt/videos/1687518467945817/

الكثير من التعليقات على السوشيال تقف لمنشورات السفير البريطاني بالمرصاد، وتتهمه في كل مناسبة بالخبث والدهاء واستخدام “الحيل الاستعمارية الناعمة” للتأثير على متابعيه واستمالتهم نحو النمط الدبلوماسي “الكول” الذي يروج له، وهنا لا نجد إلا أمرين الأول صحة هذه النظرية التي يسخر منها العديد من الناس ويصفونها بـ”نظرية المؤامرة”، وهي في الحقيقة مؤامرة مشروعة سياسيا لجميع الدول، أو الترجيح الثاني، وهو أن جون كاسن أضعف من أن يكون سفيرا حقيقيا لبلاده في مصر، وفشل في التدخل الحقيقي في العديد من الملفات السياسية الشائكة مثل عودة الطيران البريطاني إلى مصر، وطرح مناقشة جادة ينتج عنها تحركات فاعلة في ملف احتماء رموز جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية في بلاده، لكن من الواضح أنه اكتفى بدور “الإنفلونسر” وأن جلب عربة فول داخل مقر السفارة والنزول لشراء حلاوة المولد وتقطيع الفسيخ هو الأمر الذي يتمكن من فعله بجدارة، ومن الواضح أنه يسير بمبدأ “إذا لم تستطع فعل شيء حقيقي فعليك تأمين مستقبلك والترويج لنفسك بشكل إيجابي”.

ستنتهي فترة عمل كاسن في مصر، ولن تجد دولته تأثيرا يذكر له سوى بعض التغريدات عبر موقع تويتر عن طريقة عمل الفتة وكيفية شراء حلاوة المولد، كما لن يستطع أن يجمّل صورة بلاده في أعين الشعب المصري، المتضرر على الأرض من القرارات البريطانية تجاه السياحة المصرية وحمايتهم لرموز الإرهاب، وسيتضح في النهاية وجه الشبه بين “فنكوش” الإخوان ونشاطات السفير الإنفلونسر.