أحمد زكي.. معالي الوزير الذي اكتشفه عبد المنعم مدبولي

نوران عاطف

12 عاما مروا على رحيل “النمر الأسود” أحمد زكي، في 27 مارس 2005، و68 عاما على ميلاده في مثل ذلك اليوم 18 فبراير عام 1949، ولا يمكن اعتبار ما بعد وفاته من أعوام هي سنوات بدونه، فأمثال “زكي” من الخالدين، لا ينضب أبداً النظر إليهم من جديد، ولا يُعتبر إحياء ذكراهم درب من دروب “النوستالجيا”، فهو لم يكن فقط جزء من وجدان جيل عاصر ظهوره على شاشات السينما، إنما هو وجه محبب ورفيق حتى لصاحب الـ12 عاما.

ولد أحمد زكي بمدينة الزقايق، ودرس بالمعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة، درّس له الفنان نور الشريف عامين حيث كان معيدا بالمعهد وقتها، وزامله في دفعته الفنان محمد صبحي، وكان رفيقه عندما اختارهم الفنان سعد أردش، في شهرهم الأول بالمعهد للالتحاق بفرق التلفزيون، وهم بصدد التحضير لمسرحية “مدرسة المشاغبين”.

آدي الأكل وعايز الدور

في تلك الأثناء لم تكن “مدرسة المشاغبين” قد تم تجهيزها  بعد، وقررت الفرقة إعادة عرض مسرحية “هالو شلبي” لتُصور تيليفزونياً، وكان لكلِ من “زكي” و”صبحي”، أدوارا صغيرة تعتبر محبطة لطموحهما في مساحتها، ولكبريائهما في نوعها نسبةً لما تعودوا آداءه في المعهد من روايات المسرح العالمي وما إلى ذلك، على جانب آخر لفتت تلك الخيبة نظر الفنان “عبد المنعم مدبولي” أحد أبطال الفرقة والعرض.

لعب “زكي” دور شاب “جرسون” يطمح للتمثيل، لم يقل سوى جملة واحدة متكررة طوال العرض “آدي الأكل وعايز الدور”، والتي من المفترض أن يرد “مدبولي” عليها “إحنا فاضينلك !”، لكن فاجئه الفنان القدير في إحدى العروض بجملة جديدة وهي “عايز تمثل؟”، يصف “زكي” اللحظة بشعور غامر بالصدمة والسعادة والتوتر لسماعه جملة مختلفة تسمح له بالارتجال، وبعد إجابته بالإيجاب طلب منه مدبولي “طب وريني حتة”، فقدم آداء كوميدي من مسرحية أطلق عليها “القاتل الندل”، طلب منه مدبولي بعدها “إعمل فيلم”، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يُقلد فيها “زكي” الفنان محمود المليجي، ويعلق الفنان حسن مصطفى على تلك اللحظة “شعرت به من أول يوم، أما شوفته بيقلد المليجي قولتلهم الواد دة خافوا منه”.

لم يشعر أحمد زكي بالسعادة من مشاركته في “مدرسة المشاغبين”، نظراً لضيق الحيز الذي يسمح له بتقديم أي شيء مميز على حد وصفه للتجربة “لو عملت حاجة من الشخصية الفقيرة الغلبانة دي هيقولوا انت كمان هتشاغب! فهيبقى دمي تقيل، ودي مسرحية كوميدية لو عملت حاجة تنكد عليهم هيبقى دمي تقيل بردو.. الناس جاية تضحك” ويتابع “أما تشوفها في المسرح ما تفتكرنيش، لكن اما اتعرضت في التيلفزيون حسيت دوري طويل جداً”.

كنت جاهل فقير محتاج فأغناني الله

من المحطات الهامة في حياة “زكي” أثناء عمله في التيلفزيون مسلسل “الأيام” والذي عام 1979، وساهم بشكل كبير في صنع نجوميته وانتشاره، وكان الفنان محمود ياسين قد سبقه بتقديم فيلم “قاهر الظلام” ولخلافات إدارية مع التليفزيون لم يقدم المسلسل، ورفض الدور نجوم الصف الأول وقتها بحجة أن “ياسين” قدمه بالفعل ولا يوجد جديد للعمل عليه، فاضطرت الإدارة الاتجاه إلى الصف الثاني ووقع الاختيار على أحمد زكي.

استنكره الدكتور محمد حسن الزيات، زوج ابنة عميد الأدب العربي طه حسين، عند مقابلته لأول مرة برفقة المخرج يحيى العلمي والفنان يحيى شاهين، لأنه لم ير به أي شبه في لون البشرة أو الملامح بينه وبين عميد الأدب العربي، ويحكي “الزيات” عن تلك الوقعة أن تعليق “زكي” للمخرج عن ذلك الشك في قدرته على تقديم الدور كان “ما بيني وبين طه حسين هو أنني كنت جاهلا فقيرا محتاج فأغناني الله وتعلمت.. ما بيني وبينه صفات نفسية وليست خلقية”.

وبالفعل قدم “زكي” دورا استثنائيا استعان فيه بمعلم لغة عربية وبدراسة عدة حالات لفاقدي البصر، كما عكف على قراءة أعمال طه حسين الأدبية وظلت بعدها شخصية عميد الأدب العربي وثيقة الصلة باسم أحمد زكي وعمله الفني، وتحول بعدها إلى أحد نجوم الصف الأول.

نفسي أضحك من قلبي ولو خمس دقايق في السنة

يمكن اعتبار محور حياة أحمد زكي هو “جهازه العصبي”، فحتى يصل إلى ذلك الآداء “الأقرب للطبيعية” كما يصفه نور الشريف ويُرجع ذلك لامتلاكه “جهاز عصبي قوي مشع”، وكما يصف هو مدى تقمصه للشخصية “أما بشتغل عشر ساعات مثلاُ وبتقمص شخصية، وأرجع بعدها أحمد زكي أما أخلص ببقى زي الطفل.. ردود أفعالي مع الأشياء غريبة جداً لأني كنت مع شخصية أخرى.. بقالي عشر ساعات مش أحمد زكي”، يُكرس كل حواسه ومشاعره وأفكاره لشخصياته.

https://www.youtube.com/watch?v=v705BtUa4oo

لكن لامتلاك مثل تلك الحساسية المفرطة في التقاط التفاصيل وتحليلها، وجه آخر غير التألق الفني، حيث كان “زكي” شديد التأثر بكل شائعة تُروج عنه، وكل رأي يقال فيه، حتى الجيد منه يُبالغ أحياناً في التفكير في دوافعه وأسبابه حتى يحطمه ويفسد سعادته به، يحكي دائماً عن كونه ناقدا متماديا في القسوة على نفسه “عندي شيزوفرينيا مخلياني ناقد سخيف جداً على نفسي.

القمة تتسع للجميع

لم تكن رقة مشاعر “زكي” رقة أنانية، لكنه اتسم بالنقاء فيما يخصه ويخص من حوله، وذلك ما دفع صلاح جاهين لوصفه دائماً “مشكلتك إنك جاي في عصر غير عصرك” ويشدد على المحيطين به “خلوا بالكوا من أحمد زكي”.

يرفض أحمد زكي وصفه بأحسن ممثل ويبادر مذيعة الحلقة “الأحسن مش واحد، خليها من الأحسن أفضل”ويؤكد أن القمة تتسع للجميع، كما اشتهرت اشتباكات “احمد” مع الصحافة مثل ذهابه لأحدى الصحف التي كتبت على لسانه كلاما سلبيا في حق زميل آخر، وأصر على مقابلة كاتب المقال الذي رفض خوفاً منه واعترف أنه كان “بيسخن الخبر”، فأمر رئيس التحرير بفصله، وصمم “زكي” على أن يتصل –رئيس التحرير- بالزميل الذي طاله الخبر ويوضح له الموقف.

كما أن لـ “أحمد” وقعة شهيرة في أعقاب عرض فيلم “شادر السمك” الذي نجح جماهيرياً بالتزامن مع فيلم “الحريف” لعادل إمام والمخرج محمد خان والذي يعتبر من أفضل الأفلام العربية، لكن لم ينجح بحساب الإيرادات، فكتب أحد النقاد أن أحمد زكي قد أنهي “أسطورة الشباك” الخاصة بـ “إمام”، ظناً منه أنه يجامل “زكي” بتلك الطريقة، مما أثار غضبه بشدة وأخبره التالي حسب رواية الصحفي بلال فضل:

“انت لو ناقد محترم وبتأدي شغلك المفروض تشتمنى أنا، وتقولي إزاي يا أحمد يا زكي وانت ممثل كويس فيلم زي الحريف دة يفلت من إيدك، وتروح تعمل فيلم زي شادر السمك، المفروض كمان تحيي عادل إمام أنه أشطر مني وعمله”.

 

اللقاء الأخير

لكن من جانب آخر وجد “زكي” العوض فيما لمسه من عشق الجمهور له، أثناء مرضه حين كانت تخبره إدارة المستشفى بتوافد المعجبين عليه من مختلف أنحاء الجمهورية يطلبوا التبرع له بـ “أي عضو” يساعد في شفائه، حيث جاءه شاب من الصعيد يطلب التبرع بكليته وعندما أخبروه أنه لا يشكو من الكلي “قالهم طب خدوا أي حاجة” كما يروي أحمد زكي في لقائه التيلفزيوني الأخير قبل وفاته.

في نفس اللقاء تحدث “زكي” عن أيام مرضه “في عز ما كانوا بينقلوني من مستشفى لمستشفى ويحطولي أجهزة وحاجات، كنت بفكر في حليم”، ويوضح أنه طلب منهم تصوير تلك المشاهد لفيلم حليم – وهو آخر ظهور سينمائي له وقام بتصويره أثناء مرضه – بدلاً من آدائها مرة أخرى عند تصوير مشاهد مرض العندليب الأسمر، وقد أشار في لقاء آخر مبكر له عن موقف مشابه عن إصابته بورم أسفل رقبته وطلب من المخرج على بدرخان تصويره لعلها تنفعه في أي دور مقبل .. ليرحل عن عالمنا ويترك صورته وحبه محفورا بقلوب الملايين من الجمهور المصري والعربي.