في ذكرى ميلاده.. تعرَّف على المضحك التعيس "عبد المنعم إبراهيم"

نوران عاطف

في المشهد الأخير من فيلم “حكاية العمر كله” يُخبر عبد المنعم إبراهيم رفيقه في الرواية فريد الأطرش، في أثناء خروجهما من محطة القطار بعد انكسار قلبه – فريد- باكتشافه لقصة الحب بين حبيبته وأخيه وسفرهما معاً، في نفس اللحظة التي قرر فيها أن يبوح لها بمشاعره: “تعرف تبتسم؟ الناس عندهم فكرة إن احنا الفنانين أسعد ناس في الدنيا، ما عندناش هموم، حياتنا ضحك ولعب ورقص وقلوب خالية”، تلك الجملة الحزينة التي ختم بها “إبراهيم” الفيلم والتي تمنحك في بعض الأحيان شعور أنها جملة وعظية مقحمة على السيناريو، هي خير ملخص للتعبير عن حياة ذلك الفنان التعيس سيء الحظ، ولعلها كانت “تنفيس” مقصود منه أو كانت الجملة التي لاقت هوى في نفسه.

في ذكرى ميلاده يعرض إعلام دوت أورج بعض الجوانب الإنسانية من حياته، خاصة نشأته وشبابه.

في طفولة عبد المنعم إبراهيم ثلاثة أحداث رئيسية طبقاً لما سرده الصحفي بلال فضل في برنامجه “الموهوبون في الأرض”، ووصف بعضهم “بالشر المجاني” الموعود به “إبراهيم”.

أولهم بعد انتقاله طفلاً مع أهله من مدينة بني سويف التي ولد بها إلى حي الحسين بمدينة القاهرة، وفي أثناء لعبه في الشارع اصطدم بطفل آخر أكبر منه سناً، تطور معه الأمر إلى وضع وجه “ابراهيم” داخل طبق ملئ بالجير الحي، يكاد يكون أودى بنظر عينه الشمال كاملاً، وترك له سحابة بسيطة بيضاء فوقها، يراها من يقترب منه.

كانت تلك الواقعة هي الطريق للأخرى، حيث انتقل “عبد المنعم” وأسرته إلى حي عابدين، بعد تشاؤمهم من سُكنة الأول، وفي مدرسته الجديدة قابل نموذج آخر من الأذية غير المبررة، عندما سأله أحد زملاؤه “تحب أقطعلك إيدي بالموس؟ فأجاب بالسلب، فأعاد عليه السؤال بشكل آخر “تحب أقطعلك أيدك بالموس؟”، بعفوية الأطفال وربما بلاهتهم أجاب “منعم” بالإيجاب ليفاجئ بصاحب الموس ينفذ طلبه ويصيبه بجرح عميق بالقرب من المعصم.

على إثر ذلك الحادث كان التحاق “إبراهيم” بمدرسة أخرى جديدة هي مدرسة “عابدين”، والتي مثلت الحدث الثالث في طفولته، وهو ما يمكن تسميتها بالانفراجة، حيث وجد أنشطة فنية مختلفة فتحت له عالما جديدا، فتعلم العزف على البيانو، وشارك بفريق الإذاعة المدرسية، والذي قدم معه مسرحية “قناة السويس”، لعب فيها دور “القناة” وقدم إلقاءً شعريًا تم تكريمه عليه بكتاب “أئمة العلم والاختراع”.

صاحب “عبد المنعم” والده المحب للمسرح في حضور العروض المسرحية المختلفة، فأحب مسرح “الكسار” وانبهر بشكل خاص بالفنان “حسن فايق”، والذي ظهر بجانبه نجماً فيما بعد في عدد من الأفلام السينمائية مثل “سكر هانم”، و”الزوجة 13”.

أعقب دوره كمشاهد منجذب للفن بداية مشواره كفنان هاوِ، من خلال تعرفه على زميله الفنان عبد المنعم مدبولي، في المرحلة الثانوية، حيث كان كل منهم طالبا بمدرسة الصناعات الميكانيكا ببولاق، ومعهم أيضاً عدلي كاسب، وابن الفنان المسرحي عبد العزيز خليل، وبرفقتهم كان قرار الاتجاه للتمثيل.

ولأن الحدث الأول هو المؤدي للأخير في حياة “عبد المنعم” يقول عن حادث طفولته بشارع الحسين “هو صحيح ابن الهرمة اللي عمل كدة أذاني لكن اداني دون عن صنايع الدنيا صنعة الفن اللي كنت بحلم بيها طول عمري”.

عمل “ابراهيم” كموظف بوزارة المالية قسم المشتريات، وفي تلك الأثناء حوالي عام 1945، تقدم لاختبارات معهد التمثيل الذي أسسه الفنان المسرحي “زكي طليمات”، ومن ضمن 1500 متقدم وصل إلى التصفية النهائية بين 40 ممثل لاختيار 20 فقط، لكن متلازمة الأحزان والأفراح المتوازية التي ستظل رفيقة عمر “منعم” بدأت منذ ذلك الحين، حيث توفى والده قبل أيام قليلة من الامتحان النهائي، والذي كان من المقرر أن يقدم فيه مشهد كوميدي.

دخل “ابراهيم” أمام لجنة الامتحان والتي تألفت من الفنانين نجيب الريحاني، يوسف وهبي، حسين رياض، أنور محمد، المخرج المسرحي جورج أبيض، و”طليمات” مؤسس المعهد وعميده، بالطبع لم يكن “منعم” في الحالة التي تسمح له بتقديم مشهد كوميدي بشكل ملائم، فقدم آداء غير مبشر، دفع “طليمات” إلى أن يطلب منه “ما تقولنا حاجة جد”، فسارع بإلقاء أبيات شعر من مسرحية “قيس وليلى” ثم أوقفه فخرج، يُذكر أن “ابراهيم” حكى تلك القصة في لقاءات تليفزيونية مختلفة له وفي فترات زمانية متباعدة لكن بنفس الحماس، الذي أعقبه بإلقاء الأبيات وينهي بالتعبير عن لسان حاله بعد خروجه “أنا قولت خلاص ضعت”.

لكن بالفعل تم اختيار “منعم” من ضمن العشرين طالب أعضاء الدفعة الجديدة والتي تضمنت أيضاً فريد شوقى، شكري سرحان، صلاح سرحان، فاتن حمامة، سميحة أيوب، عمر الحريري، عبد الرحيم الزرقاني، نعيمة وصفي، وحمدي غيث، تألق “إبراهيم” خلال سنوات المعهد وتخرج فيه وهو الأول على دفعته، في عامه الأول تعرض لأول مواجهة في حياته بين ملامحه الكوميدية ورغبته في أداء الدراما حيث قدم عرضا عن الجامعة العربية بمدينة طنطا، وعند وقوفه على المسرح لتشخيص دولة لبنان، لم يتمالك الجمهورنفسه من الضحك، لكن “منعم” لم تفلت زمام الأمور من يده واستمر في العرض، مما دفع “طليمات” إلى الاكتفاء بذلك الموقف لينقله إلى السنة الثانية بالمعهد دون امتحان.

عام 1954 خيره وزير المالية بين العمل بالفن أو الاستمرار في الوظيفة فاختارالتمثيل، ومن هنا بدأت رحلته كفنان محترف مصدر دخله الوحيد هو العمل بالمسرح أو السينما، تزوج “إبراهيم” في سن مبكرة بعد قصة حب فاشلة أصابته بالاحباط ودفعته للزواج التقليدي، له من زوجته الأولى التي توفيت بمرض خبيث أخبره الطبيب عند اكتشافه أن أيامها في الحياة لن تتعدى الستة أشهر، ثلاث بنات وولد واحد توفي في شبابه، تحمل بجانبهم مسؤولية أولاد أخيه المتوفي، وإخوته من أبيه الذين تركهم أطفال بعد وفاته، لذلك اعتقد أن الموت يطارده دائماً، خصوصاً بجانب أي خطوة هامة في حياته.

من ذلك الحين بدأت سلسلة من محاولات الفنان القدير عبدالمنعم إبراهيم لإثبات نفسه كفنان يصلح لكافة أنواع التمثيل وليس الكوميديا فقط، فيحارب حصر منتجي ومخرجي السينما له في تلك الأدوار بلا فائدة، وتنهكه الحيرة بين إرضاء نفسه وموهبته بالوقوف على خشبه المسرح القومي الذي أدمنه وفضله عن مسارح أخرى مثل مسرح “إسماعيل ياسين”، وبين التزاماته المادية واحتياجه للعمل التجاري،ويحارب حتى ملامحه التي فرضت عليه ذلك القالب الساخر، تسأله المذيعة في إحدى الحوارات عن سبب انتهاجه لطريق الكوميديا فيسارع بالإجابة “في الحقيقة انا ما اختارتش حاجة”، يعقبها بصمت ثم إجابة مشتتة بين عرض أحزانه كما يشعر بها أو الإجابة بما يريد الجمهور سماعه.