مها ناجي تكتب: ونفس وما سواها

من أمور الأمومة اللطيفة أن تذاكر لابنك في اختبار حقيقي للصبر وكظم الغيظ والتحكم في الأعصاب كل على حسب مستواه. والحق يقال ابني – وهو في الصف الثاني الابتدائي- في العموم غير متعب ومجتهد أغلب الأوقات، فيبدو أنه من نوعية الطلاب الساعين للكمال وإرضاء المعلم مما يجعلني افترض أنه لن يكون متعبا لي في فقرة المذاكرة المقررة على كل بيت مصري، أضف إلى ذلك وجوده في مدرسة خاصة تتبع نظاما أجنبيا يغرس في الطالب اعتماده على نفسه ويركز على الحد من تدخل أولياء الأمور أو الاعتماد عليهم في المنزل. فالهدف هو تعليم الأطفال ليس فقط المادة ولكن أيضا الاستقلالية وتحمل المسؤولية منذ الصغر. وعلى عكس ما يظنه البعض عن المدارس الأجنبية فإن المدرسة تلتزم بالمنهج الحكومي للغة العربية والدين، وهنا بدأت الأزمة..

جاء لي مساء ليلة من الليالي المدرسية وعلى وجهه علامات قلق واحباط قائلا: “مامي أنا عندي حفظ”، نعم؟؟ حفظ ايه بقي؟، جاوبته وأنا في قمة التعجب من أن هناك من المواد ما يزال يتطلب الحفظ في علم ٢٠١٧! واتضح سريعا كما هو متوقع أن “التسميع” المطلوب هو في مادة الدين وتحديدا لسورة الشمس. وكي أكون في منتهى الصراحة فأنا غير حافظة لسورة الشمس فلست خير مثال لولدي! وطبعا كان جوابي الأول: “مين اللي قالك لازم تحفظها؟”، فرد علي مسنتكراً: “المدرسة!”، ماشي.. جلست مع الولد لنحفظ الآيات المطلوبة وطبعا باءت المحاولات الأولى بالفشل الذريع وبدأ “علي” ينهار من خوفه ألا يستطيع تسميع الآيات أمام معلمته وزملائه لدرجة جعلته يقترح ألا يذهب إلى المدرسة في هذا اليوم على الإطلاق! علما بأنه من التلاميذ الذين يفخروا بعدم غيابهم أي من الأيام المدرسية بشكل عام. وبعد بضع محاولات أدركت سبب المشكلة -بجانب مشكلة وجوب حفظ الآيات- وهو أنه لا يفهم ما يقرأه! فعلى سبيل المثال تتحدث السورة عن قوم ثمود بشكل مختصر جدا، ولكن طبعا ابني الحبيب المحب للتفاصيل لم يكتفي بأنهم “ناس كانوا عايشين زمان ومش كويسين” كإجابة لسؤاله الذي أتبعه ب”أيوه كانوا عايشين فين وعملوا إيه يعني؟” ليجبرني أنا الأخرى كأم تحب دائما أن “تجيب أصل الموضوع” قررت أن يفهم علي أصل الموضوع وبدأنا بالشرح آية آية لأتاكد من فهمه للكلمة ومعناها قبل أن ننتقل لمرحلة الحفظ. واتضح لي أن أغلب الطلبة لم تفهم الدرس جيدا أو فهموا معناه الواسع ولكن لم يتم التطرق لمعنى كل آية. وتحولت فقرة ما قبل النوم إلى سهرة مذاكرة وبحث على الانترنت مع ابني للبحث عن أصل قوم ثمود في مختلف الروايات والسور القرآنية الأخري لنفهم لماذا حدث لهم ما حدث. وبدأت اخترع لغة إشارة خاصة بالسورة الكريمة لأساعد ابني العزيز على الحفظ: شمس، قمر، النهار، الليل، السما، والبني آدم “وحش وحلو” تتبعها آيات قوم ثمود والتي أصر فيها على أنهم ذبحوا الناقة، ولم يعقروها حوالي 10 مرات تسميع حتى استطعنا في النهاية أن نتم الحفظ بدرجة مقبولة. ليستيقظ ابني من القلق في الفجر ويرتدي ملابسه ويوقظني قبل موعد الأتوبيس بنصف ساعة لأساعده على الحفظ! واستمرينا في الحفظ والمراجعة حتى اللحظة الأخيرة قبل ركوب الأتوبيس وودعته بكلمات تشجيعية كمن ترسل ابنها على الجبهة للحرب.

ولكن كل ما استطعت التفكير فيه هو لماذا كل هذا التوتر والضغط العصبي على طفل في الثامنة من عمره؟! ولماذا يكون المعيار الذي نختبر الأطفال على أساسه في مادة مثل الدين هو الحفظ وليس الفهم؟ هل هذه طريقة تحبب أولادنا في تعاليم دينهم وفي القرآن الكريم؟! لا أعني ألا يحفظ الأطفال آيات كريمة ولكن لماذا يجب أن يكون بالإجبار وبهذا النوع من الضغط الذي ينتج عنه كره الطفل للمادة التي تتطلب ذلك؟! وهو العكس تماما مما تهدف إليه الدراسة بشكل عام. أليس أجدر بهذا الوقت الذي يخصص للحفظ والتسميع في الفصل أن يخصص لتعليم القيم الدينية التي نحاول أن نغرسها في أبنائنا ليكونوا مواطنين أسوياء؟ ظللت أفكر في الموضوع طوال اليوم وغاضبة من أثر هذا الموضوع ليس على ابني فقط ولكن علي أنا أيضا في صورة ضغط وقلق لأعرف نتيجة “التسميع” واطمئن عليه، ليس لأنني مهتمة إن كان يستطيع تسميعها أم لا ولكن حتى لا يعود علي إلى المنزل محبطاً أو يكون قد أحرج أمام زملائه إن كان لم يستطع تذكر كل الآيات.

عدت إلى المنزل من عملي في نهاية اليوم لأجد علي يستقبلني بابتسامة عريضة وحماس شديد يزف إلي خبر نجاحه في تسميع الآيات المطلوبة أمام الفصل. احتضنته وهنأته بنفس الحماس منهية حديثي قائلة “المهم تكون فاهم يا حبيبي”. ودخل علي ليستحم قبل خلوده للنوم، وعند عبوري من أمام باب الحمام سمعته من الداخل يغني “ونفس وما سواهااا.. ونفس وما سواهااااا”…