في ذكرى ميلاده.. فؤاد حداد الثائر الخجول

نوران عاطف
 
إذا حاولت البحث إليكترونياً عن اسم فؤاد حداد، ستجد الآلاف من النتائج حول قصائد شعر منفردة أو دواوين له، يليها كتب ومقالات نقدية عنه وعن شعره، وتسجيلات ووثائقيات عن حياته، وبعض التسجيلات لأشعاره بصوته، لكن ما يندر أن تصادفه هو ظهور إعلامي له يتحدث فيه عن نفسه أو يعلق فيه على حدث جار. لا يوجد سوى مقاطع نادرة يظهر فيها أمام الكاميرا غالباً ليلقي الشعر أيضاً.
 
يقدمه صلاح جاهين في جزء من لقائه مع الإعلامي طارق حبيب في برنامج “أهلاً وسهلاً” بسعادة بالغة ويقول “هو دايماً بعيد عن الأضواء متعمداً، فأنا انتهزتها فرصها عشان أقدمه للجمهور ويعرفوه ويعرفوا ليه أنا بحبه”، يجلس حداد بدون حديث، على وجهه ابتسامة هادئة وبعينين بعيدتين عن اتجاه الكاميرا بينما يستأنف جاهين حديثه عن بداية معرفته بصديقه، أيام الاحتلال الانجليزي عندما سمع الأبيات:
 
في سجن مبني من حجر
في سجن مبني من قلوب السجانين
قضبان بتمنع عنك النور والشجر
زي العبيد مترصصين
 
ويوضح أنها كانت صور جديدة على شعر العامية وقتها، لذلك بحث عن صاحبها حتى عثر عليه ووجده شخصا “مُحصن من جميع الجهات” فهو خريج المدراس الفرنسية، مطلع على الأدب العالمي، صاحب ثقافة عربية متينة “ما يكتفيش بشاعر يتجاوب معاه أقل من المتنبي”.
 

ولد فؤاد حداد في 28 أكتوبر 1928، بالقاهرة لأسرة أرستقراطية مسيحية بها أب لبناني الأصل وأم تنحدر من عائلة سورية، التحق بالمدارس الفرنسية واتبع شغفه بالاطلاع على تراث الأدب العربي، عادة ما يوفر الآباء لابنائهم نشأة مماثلة لبناء شخصية حرة قوية وسوية تختار طريقها في الحياة، وحداد كان خير ثمرة لتلك البيئة الصحية، فقد اختار بإرادته كل ما يتعلق ببقائه على الارض، اختار أن شاعر وأن يكون شيوعي وأن يكون مسلم.
 

أُعتقل حداد لأول مرة عام 1953 وحتى عام 1956 بتهمة الشيوعية، يحكي الشاعر هشام السلاموني عن شيوعية حداد “كان يحب في الدين أنه إنصاف الفقراء، ويحب في الماركسية أنها إنصاف الفقراء، ويحب في الإنسانية أنها إنصاف الفقراء.. لم يكن يعرف سوى الشعر وإنصاف الفقراء” ويؤكد حداد دائماً على حقيقته كشيوعي وعروبي حتى النخاع.

 
لا يمكن اعتبار النشأة والثقافة فقط هما خلطة حداد، فطبيعته الإنسانية أيضاً متفردة، لم ير في السجن ظلامه، ولم يتسبب اعتقاله في كره عبد الناصر أكبر رموز القومية العربية، ولم تكسره هزيمة 67 بل قال “الأرض بتتكلم عربى بوجد وشوق.. الفرع اللى يهم لفوق.. لأجل الجذر يشم الضوء”.
 

في 1959 دخل حداد المعتقل مرة أخرى لمدة خمس سنوات، وحُبس بسجن الواحات حيث اجتمع مع القادمين من مختلف أنحاء الجمهورية، فاحتك بثقافاتهم وغنائهم وحزنهم ومشاكلهم، مما شكّل له تجربة إنسانية جديدة ومختلفة امتن لها قائلاً “الشكر للي سجنوني، وبنيل وطمي وعجنوني”.

 
بعد خروجه بدأت مرحلة جديدة في عامية شعر حداد استخدم فيها شخصيات مثل الدب والفأر والثعبان والبغباء وسُميت أشعار الرقصات، صرح الفنان محمود حميدة في لقائه مع الإعلامية منى الشاذلي أن أول ما سمع من شعر حداد كان قصيدة “رقصة الفار” من الروائي خيري شلبي، ويوضح أنه رغم ما يُعرف عنه من ولعه بالشعر لكنه أدرك أنها المرة الأولى التي يتذوقه فيها، وأصبح فيما بعد من أشد المعجبين بحداد والمبشرين بشعره لكن ذلك كان بعد رحيله.
 

أول دواوين فؤاد حداد هو “أحرار وراء القضبان” واسمه الأصلي هو “افرجوا عن المسجونين السياسيين” وتم تغيير الاسم بسبب الرقابة، ثم تلاه عدة أعمال منها ديوان “حنبني السد” 1956، و”قال التاريخ أنا شعر إسوَد” ترجمة لمختارات من الشعر الفيتنامي 1968، و”المسحراتي” 1969، كما ترجم قصة “الأمير الصغير” لأنطوان دي سان إكزوبري وحولها للمسرح الغنائي المصري، وقدم ملاحم مثل “أدهم الشرقاوي” و”حسن المغنواتي”.
 
وربما أحلام إنصاف الفقراء والوحدة العربية التي مثلها جمال عبدالناصر بمشروعات ملموسة مثل تأميم قناة السويس وبناء السد العالي ومجابهة العدوان الثلاثي، كانت سببا لاستمرار دعم حداد له ولمشروعه برغم ما يمكن اعتباره سياسة قمعية أودعته بالمعتقل لحوالي تمان سنوات متفرقة من عمره، ورثاه فؤاد بقصيدة طويلة من جزئين، الأول هو “مصر وجمال” كتبه في نوفمبر 1970 والثاني “لازم نعيش المقاومة” أتم به القصيدة عام 1971.
 

لم يفقد فؤاد حداد ابداً شعلة الأمل بوجدانه، لكن ما صبغ المجتمع المصري من تغيرات سياسية واجتماعية بالتزامن مع عهد الرئيس محمد أنور السادات أصابته بشيء من الصدمة، حيث قضت سياسة الانفتاح وبروز التيارات الإسلامية على شكل الشارع المصري كما يعرفه، في ذلك السياق يروي ابنه أمين حداد أنه كان يصاب بالدوار بمجرد خروجه من المنزل لذلك كان يحتاج لمن يرافقه للعمل ويعود به كل يوم، والكشف الطبي أوضح سلامته من أي مرض عضوي وأنها فقط عوامل نفسية.
 

أخبره طبيبه النفسي بضرورة مواجهة الموقف والتعامل مع التغيرات الطارئة، احتاج حداد لأدوية مكافحة الاكتئاب، أثرت على إنتاجه الشعري، وانتهى مشواره معها بعد أربع سنوات بجلطة في القلب حسب رواية أمين.

 
توفي فؤاد حداد في عام 1985 برصيد 33 ديوان منهم 17 فقط خلال حياته والباقي صدر بعد وفاته، تاركاً كلماته في وجدان وذكريات كل مصري وعربي، فلا يوجد من لم يحفظ بيت شعر على الأقل لحداد حتى لو لم يدرك اسم مؤلفه، اعتبر فؤاد الشعر هو سيفه لإعادة موازين الحياة إلى نصابها فيقول “كنت عاوز أبقى فارس وأحرر العالم، وعرفت إني مش هبقى فارس فبقيت شاعر”، ووصف مكانه من الشعر بأبياته:
 
أنا الأديب وأبو الأدباء
اسمي بإذن الله خالد
وشعري مفرود الرقبة
زي الألف.. ورقم واحد