حسام حسين يكتب: من الذاكرة

كان سريراً صغيرا،ً يأتي بجوار السراحة القديمة، الشيء الوحيد الباقي من أثاث أمي، الذي ظل بنفس رونقه القديم. على هذه السرَّاحة كنت أنجز واجباتي المدرسية بحب لافت. لا أذكر أن كرهت المدرسة يوما.

في هذه الأيام كنت ألقي رأسي على وسادتي الصغيرة، فأنام من أول محاولة. أنام حتى تأتي أمي لتوقظني بضربة حنونة في كتفي. كي أنهض للعشاء. لم أفهم وقتها سر تأخره عن موعده المعتاد. أنهض، فلا أجد أي مصدرٍ للإضاءة. الأسرة كلها على بقايا النوم تتحلق حول الطبلية. تأكل بلا شهية. وجوه شاردة تائهة متحفزة. أبي في صمتٍ كنا نعتاده، وأمي لم تعد مشغولة بتوجيه نصائحها أن نأكل كذا، أو نهتم بشرب كذا. فقط عشاء روتيني بارد. كان النوم في ظني أفضل منه.

كان يقلقني وقتها هذا الظلام، لكن، كان من دواعي فخري أن هذا العشاء كان يتم على ضوء فانوسي المعدني ذي الشمعة الوحيدة.

أدخل إلى سريري، وأمي خلفي تفترش الأرض بسجادة صلاتها. لا أتبين قبل العودة للنوم مجددا غير صوتين.. أسمعها تدعو لأبن خالتي”عبد الرحمن” أن يعود سالما هو ومن معه. وصوت شيخ مسجد قريب من بيتنا يدعونا لأن نرفع الماء.

في ظهيرة أحد الأيام سمعت أمي من شرفة بيتنا المواجهة لشرفة جارتنا، تهنئها بعودة ابنها سالما غانما. لحظات وظهر “حمدي” يسلم على أمي التي سألته بدورها عن “أحمد” و”عبد الرحمن” اعتقادًا منها أنه قد رآهما. لم أسمع غير أنهما بخير، فتقريبًا كل شيء قد انتهى.

يومان وزارنا في البيت أبنا خالي وخالتي. ولأول مرّة كنت أرى ما يشير لانكسار التجهم الذي ظل عالقا بملامح كل من حولي. سمعتهما يتحدثان عن عبور وقناة وإسرائيل. دبابات وطائرات ومدافع. وهذا مات، وذاك اُستشهد. الكل يسمع باهتمام، وأنا من ركن بعيد أشفق على طفولتي، وأبدي دهشتي.

قبل أن ينتهي رمضان لم ألحظ أن رائحة البيت قد تغيرت، ولا رائحة الحارة، ولم يحتشد أحد من أخوتي حول أمي لإنجاز كعك العيد. وكذلك لم أر أي زحام حول المخابز. حتى العيد حين أهل، كان باهتا. لم يأتني الحذاء الجديد ولا الوقفة الجديدة. ولم يمنحني أبي القروش الورقية القادرة على حد تعبيره أن تذبح العصفور.

زرت خالتي فوجدتها متشحة بالسواد. كان الحزن يتجلى في كل ملامحها. زاهدة في الحديث، وغير مبالية بالقطط التي تتحرك حولها. هي التي كانت في السابق تغدق عليهم الكثير من العطف والتدليل.

لم أكن أفهم سر هذه المسافة المرتبكة بين حزن الناس، وذاك الراديو الذي يكشف لي عن عبد الحليم حين يصبَّح على سينا. أو صوت “ورده” وهي على الربابة تغني. لا أذكر بوضوح الآن، فلقد سقطت من الذاكرة الأسماء.

 

جرت في النهر مياه كثيرة، نضجت بالقدر الذي بصَّرني أنها الحرب. وأن العشاء كان سحور ليالي رمضان. وأن الظلام كان تحسبا لغارات الطيران الإسرائيلي، وأن فانوسي المعدني ذي الشمعة الوحيدة؛ كان مصدر الضوء المسموح وقتها، وأن مُعلمتي”بُثينة” التي أرتدت ثوبها الأسود من الصف الأول، وحتى الرابع لي في فصلها.. إن هي إلا أرملة شهيد. وأن البهجة المصاحبة للعيد قد ترفَّع عنها الناس؛ لأن الموت كان حاضرا في كل البيوت. وأن”عبد الرحمن” ابن خالتي لم يمت في الحرب. وإنما بعدها. في عملية واسعة لتطهير الأرض من الألغام.”عبد الرحمن” الذي تعرَّف عليه أبوه من ثقب في أذنه اليمنى، صاغته جدته مخافة الحسد!!

إنها الحرب، لماذا لم أكن أفهم وقتها. فلقد كنا حزانى والبلد وحدها تبتهج. كنا نبكي، ومصر وحدها تبتسم. وذاكرتي الخشنة الجريحة، تجتر هذه الأيام الآن. لا لكي تنقم على بلدنا هذا النصر الكبير، ولكن فقط؛ كي نتذكر إنها الحرب.